كم كنتُ سعيدا ومحظوظا حين سحبتُ جُذاذة ورقة الإمتحان في مادّة النّقد والسيناريو بمعهد السّينما الدّوليّ: ال(FGIK) سنة 1988 بموسكو (والتي مازلتُ أحتفظ بها عندي إلى اليوم), وكان مضمونها كالتّالي: (تحدّث عن رواية الجريمة والعقاب لدستيوفسكي منطلقا من مرجعيّة الإدانة عبر المناورة السّيكولوجييّة في الرّواية, وحلّل مفهوم التفوّق المرضيّ المشوّه عند راسكولينوف والسّلبيّة المقابلة للعجوز المرابيّة…لديك أربع ساعات).
كنت يومها كما الطّفل يوم العيد, أكاد أطير من الفرحة وأكاد أحلّق وحدي في الفضاء وأهمّ بأن أبوس زملائي في القاعة وصلعة كلّ واحد من أعضاء لجنة التحكيم الثلاثة, فقد عرفت, وتأكّدت نهائيّا وقبل أن أبدأ بالكتابة والشّروع في تحبير الورقات البيضاء المختومة التي أمامي بأنّني ضمنت النّجاح مُسبقا, من بين ثلاثمائة مترشح من كلّ بلدان الإتّحاد السوفياتي السّابق, وأكثر من خمسين أجنبيّ مثلي, سيختارون منهم عشرة طلبة فقط…وقد كان, وانسحب نصف الحاضرين من القاعة الكبرى فورا, ونجحتُ أنا ضمن ثمانية روس وأجنبي واحد معي بتفوّق مذهل عامها. حقيقة، لكم أنا مدين لهذا الكاتب الرّوسيّ الالمعي المجنون العظيم… وكم احبه مُجرما طريفا, ومقامرا مفلسا على الدوام، وسكيرا عربيدا، وكاتبا عبقريّا تسكنه روح لا تنزل الأرض إلا تواضعا كلّ ألف سنة بما يعدّون….
في الحقيقة, وبعيدا عن أيّ مغالطة أو تبجّح أو تواضع تافهٍ وأخرق, وحاشا الله أن أكون متواضعا إذا تعلّق الأمر بالنّصّ الأدبيّ وبما أؤمن وأنجز, فأنا أظنّ, بل أؤمن إيمانا صلبا ويقينا, بأنّ الكائن البشريّ لم يكتب ويُنجز بعدُ رواية أكمل وأروع من رسالة الغفران لأبي العلاء المعريّ, وهي أوّل رواية في التّاريخ البشريّ بكلّ مقوّمات الرّواية, والتي تذرعّ بها دانتي للعالميّة, ورواية الحرب والسّلام لتولستوي ونفوس ميّته لغوغل والجريمة والعقاب لدستيوفسكي, ورواية مفاتيح القيروان لكمال العيّادي الكينغ, ما عدى ذلك, فكلّ إنجاز البشريّة من روايات, هيّ مجرّد قحبولوجيا سرديّة وتمارين مدرسيّة وسرد عجائز وتقليد لأفلام هنديّة ومسلسلات مصريّة وقصص طويلة مسليّة ودرجات أقلّ وأدني بآلاف السّنوات الضوئيّة…حتى الوصول بها إلى قبضة الرّيح, وهي الصّهريج الجامع لتسعة وتسعين بالمائة ممّا يتغوّطون ويعتبرونه أدبا منذورا وعبقريّا. آه, نسيت..ورواية العطر لباتريك سيوزكيند. ورواية ميتامولفوزا لذلك اليهودي السّوداويّ فرانز كافكا. ورواية ٨٤ لجورج أوريل. فقط. نقطة وإلى السّطر من فضلك…الباقي يدور في نفس الفلك البائس منذ مائة سنة.
** (كمال العيادي الكينغ) **
قرأت رواية (الجريمة والعقاب) بالرّوسيّة في موسكو، عديد المرّات، حتّى أنّني أحفظ منها عدّة صفحات، وخاصّة المناورات السيكولوجيّة البديعة في مكتب المُحقّق. وأعيد قراءتها بالألمانيّة مرّة في السّنة، على أقلّ تقدير. و أكثر من مرّة في السّنة، أعيد قراءتها باللّغة العربيّة وخاصّة ترجمة سامي الدروبي لها عن الفرنسيّة والتي بلغت فيها ترجمته، حدّ الكمال ومنتهى الرّوعة، ولا تنافسها أيّ ترجمة، رغم أنّ سامي الدّروبي، وهو أعظم من ترجم عيون الأدب الرّوسي، لم يكن يتقن اللّغة الرّوسيّة. و من المُؤكّدِ أن رِواية (الجريمةُ والعِقابْ)، للمبدع المُقامر الفاسِد السّكِّير العبقريّ فيُودُورْ دُوستُويفسكِي هيّ أهمّ روايةٍ عبرَ كلِّ العُصُورِ, وستبقى كذلكَ، والسّببُ بسيطٌ جدّا: لأنّه كان يتنفّسُ فِعلاً بنِصْفِ رِئةِ بطلهِ المُذنبِ, الطّالب السّابق (رُوديُون رُومانُوفيتشْ رَاسْكُولْينِكُوفْ) وهو يكتُبها، وكان يتلظّى ويستمتِع كلّ الإستمتاعِ بهذه المُجازفة والتّضحيّة، وكتبها في سِتّة أشهر فقط, وزوجته الفظّة الحمقاء تنتظرُ كلّ يومٍ وراءَ الباب مُتبرّمة ليمدّها بأفْرخِ الورقِ المُنتظرة حتّى تُسلّمها تباعا للنّاشر التّافه المُستكرش وتسترجع أخيرا كلّ الأغراض التي كان زوجها الكاتب العبقري، المُقامر الفاسد رهنها بسوق العلف وراء البيتِ, وأوّلها معطف فرو الأرانب القديم والشّمعدان الفضّي وخاتم الزّواج وقصعة الغسيل وقبّعة الرّيش..ويا كم أقنعنا وهو يكتب في هذا الجحيم والضّنك الشّديد, بأنّنا جميعا نتقاسم السيكولوجيا البشريّة نفسها, وأنّنا في أعمق أعماقنا مجرد بشر خطاء وخبيث المعدن مهما تفاوتنا في درجة الأصالة والنّبل المُكتسب من وديعة التربية والمحيط، وأنّه يمكن لأنقانا وأنبلنا, وبالفعل, أن يزهق روحا بشريّة في لحظة طيش بالبساطة التي يفعص بها قملة بأظافره وهو يستمتع بسماع سيمفونيّة مؤثّرة…
عظمة وجبروت رواية (الجريمة والعقاب)، أنّ كاتبها عبقريّ بالفعل، وهو من طبقة نادرة جدّا جدّا, مصرّح لها أن تنزل الأرض لتعيث فيها فسادا وتقلب كلّ الموازين والقواعد والقوانين مرّة كل ألف سنة، وقرّر أن يثأر لنفسه من العامّة النّجيبة بسحل منظومة القناعات الثابتة وشريط الأخلاق الأرضيّة النّبيلة التى يتكؤون على حافتها, من لغاليغِ زمّارة رقبتها، وصاغ ذلك بحرقة وغيظ ولؤم وجبروت عبقريّ مُهانٍ بتفاهةِ اليوميّ وثقل الدّيون وغلاء ثمن النّبيذ واحتكار الفودكا وفظاظة صاحب الحانة المجاورة ورداءة الطّقس في شهر نوفمبر..
وببساطة, ضفْ معي ما تُريد من الأسباب الواهيّة, فالعباقرة لا يحتاجون أسبابا ولا حتّى مواضيعا أصلا, لكي يعيثوا في الأرض إبداعا..
***(كمال العيادي الكينغ)***
من كتابي الجديد//
(خمسون بُورتريه وبُورتريه)
يصدر الشّهر القادم عن دار المسار بتونس
Discussion about this post