الكينغ يكتب
: – (حين يرتقي الرّئيس إلى مرتبة زعيم):
عبر ثلاثة آلاف سنة، لم تنجب تونس سوى (زعيم) واحد. زعيم بكلّ ما تعنيه الكلمة، بخيره وشرّه. وهي مرتبة لا يمنحها الشّعب إلاّ مرّة واحدة في تاريخه وعبر كلّ العصور. وإن زعموا أن شعبًا ما يفاخر بزعيمين، فثق أنّ الثّاني أضافوه لإعتبارات خاصّة. أغلبها تقديرًا، لمنجزه، ويبقى زعيمًا بين قوسين، لطبقة وليس لعموم الشّعب. ولكن رتبة الزّعيم لا علاقة لها بذلك، فقد يكون الزعيم دمويّا قاتلا شرّيرًا و مُجرم حرب وعدوّا للإنسانيّة، ولكنه (زعيم) رغم كل ذلك، مثل ستالين مثلا في روسيا. أو ماوتسيتونغ في الصّين وغيرهما. لكن ثق أنّ لكلّ أمّة زعيم واحد، وهذه ظاهرة غريبة ولكنّها حقيقة مُؤكّدة. والبلد الوحيد الذي عرف زعيمين هوّ الإتّحاد السّوفياتي في الثلث الأوّل من القرن العشرين وهما لينين وستالين. ولكن وبصدق مُؤسف، فإن لينين كان مؤسّسا وقائدا لسنوات معدودة، ولكن الزّعيم الحقيقي والأوحد عندهم، هوّ ستالين. وستالين فقط. رغم تاريخه الدّموي الذي يبعث على الغثيان وليس الإشمئزاز فقط. ولكن من أهمّ شروط الزّعامة هيّ الأرضيّة السّيكولوجيّة الفطريّة، وأعني الجينيات: أن يكون خلق ليقود وليس ليُقادَ. فضلا عن هبة القُبول …والكاريزما….
وبورقيبة الذي علّم وألهم الكثيرين, وأنا منهم بالتأكيد, خلق ليقود. وكانت له كاريزما قويّة، فضمن بذلك الشّرط البديهي للزّعامة. ثمّ أنّه كان لا يفرّق بين التاريخ والجغرافيا، ليس لأنّهما مادتان, يدرّسهما أستاذ واحد, ولكن لإعتقاده, وأنا أشاطره الرأي في هذا, أنّ من لا تاريخ له, لا يمكن أن يراهن أو يفاخر بجغرافية, حتى وأن كانت حدودها, معلنة, ومسجّلة بخطّ واضح على ملامح وجهه الأسمر وجواز سفره الأخضر, وأوراق ثبوت ميلاده ووفاته أو إرتباطه, وعقود ملكيته وإرثه…فالتاريخ والجغرافيا, خطان متقاطعان, يرسمان هويّة وكينونة …
هذا أوّل درس تعلمناه نحن التوانسة من بورقيبة, هذا فضلا, عن أنّه علّمنا أن لا نعامل المرأة كبهيمة, فهي الأخت والأمّ والحبيبة والرفيقة والزميلة والمدرسة, والحمار فقط من يحسب أنّه خرج من بطن بهيمة…
نعم…بورقيبة علّمنا ذلك وأشياء كثيرة أخرى..أتذكرها حين أشرب كأسا من نبيذ بلادي وأهيم وحدي في أروقة الذاكرة البعيدة, هنا أو هناك, في غربتي التي أردتها سنوات قليلة, وها هي تلحس حتّى الآن أكثر من ثلث قرن من عمري…
حقيقة أنا أحبّه بدون مبالغات وتطبيل وتشدقّ ومُزايدات مجانية ولا تأليه…لقد كان مصلحا وصادقا في عشقه لتونس, وكان مضطرا أن يخطئ بعض الأخطاء الضرورية والملحّة، بالنّسبة له من اجل انسجام وتناغم المنظر العام. وقد نتّفق وقد نختلف حول بعض الوقائع والأحداث أو الأخطاء التي ارتكبها. ولكنّه أحبّ تونس وبصدق. فمنحته تونس اللّقب الوحيد الذي لا يفتك ولا يسترجع أبدًا. وبورقيبة سيبقى ولآلاف السّنين رمزًا وزعيمًا فقد إرتبط إسمه ورسمه بتونس وللأبد.
أحساس هادئ ولطيف من الإطمئنان إليه وتذكر ملامحه المتكسرة الحزينة, حين يحكي عن أمه فطومة, أو بريق الفخر والإعتزاز حين يتكلّم عن أول مظاهرة نسائية قادتها حرمه وسيلة بورقيبة, أو شعلة النخوة والأمل والرجاء والأشفاق والحبّ حين ينطق عبارة /تونس/…..ويبكى مثل طفل، وأنا أصدّق دموعه، وأعرف جبروت فيض تلك المشاعر جيّدا….
ومن سيردّد كالببغاء، بأنّ الزعماء يتركون أوطان راقية ومتقدمة، فعليه أن يعرف كيف كانت تونس قبل الإستقلال أولا. وليكن يقينا أنّ عقليّة التونسي المرنة والوسطيّة من آثار المدرسة البورقيبيّة…..ثمّ، وبصراحة وليبق هذا بيننا:
(بِرويطة رمل ما تطلّعش عمارة)…..
سنة 1969 قام الماريشال تيتو بدعوة الحبيب بورقيبة إلى يوغسلافيا, ولبّى بورقيبة الزّيارة وسافر في وقت كانت فيه تونس تشهد عديد الأزمات الاقتصاديّة والاجتماعيّة زادت عليها الفياضانات التي اجتاحت البلاد التونسيّة وتسبّبت في إتلاف المحاصيل الفلاحيّة وشرّدت عديد السّكّان وجعلتهم بلا مأوى في الشتاء القاسي… قام الماريشال تيتو بإقامة مأدبة غداء على شرف الزعيم الحبيب بورقيبة والوفد المرافق له, وبدأ الجميع يأكل إلا بورقيبة. فسأله الماريشال تيتو تفضّل سيّدى الرّئيس بالأكل.. فبقي بورقيبة ينظر إلى الماريشال تيتو وقد إحمرّت عيناه وامتلأتا بالدّموع التي حاول حبسها ثم انهمرت فجأة وأجهش بالبُكاء, فانتفض تيتو من كرسيه ووضع يده على كتف بورقيبة وسأله, أيبكي الزعيم الذي حير العالم بقوة شخصيته وصلابته؟؟!!….فقال له بورقيبة نعم يا صديقي لقد عزّ عليَّ أن آكل من هذه الخيرات وهذه المأدبة وشعبي يتضوّر جوعا ولا سقف يأويه, لقد بكيتُ من أجل شعبي, فبكى معه الماريشال تيتو وفي اليوم الموالي تدفقت المساعدات الغذائية والألبسة والأغطية ومواد البناء…اليوم تمرّ تونس بنفس الأحداث, ونحن لا نريد من يوغسلافيا شيئا. الحمد لله مستورة…نريد فقط أن نبكي على رئيسنا، الكائن الفضائيّ الغريب المُحنّط، الذي لا يكاد يُشبهنا في شيء تقريبا، وهو الذي لا يسافر أبدًا خارج حدود البلاد وقانع جدّا بمهرجان جولات الشّو الإعلامي للأحياء الفقيرة صحبة ترسانة من الصّحفيّين وعدسات الكاميرا… ولا يعرف كيف ولا حتّى من أين يبكى الكائن البشريّ، وأنّ فتحتى العينين تُستعمل لدينا لأغراض أخرى أيضا، غير البحلقة والدّعمشة والجحوظ…. رحم الله بورقيبة، رئيسنا، الزّعيم التّونسيّ الشّعبيّ الوحيد، فقد كان زعيما حقيقيّا، وأهمّ أركان الزّعامة، هيّ القوّة والهيبة والكاريزما والضعف البشري، الذى تترجمه الدّموع أحيانا، فما أعظم دموع الكبار والحقيقيّين حين تخون، فتروى التاريخ والنّفوس المكلومة، وترجّ الضعفاء والمغشوشين والعابرين….
(كمال العيادي الكينغ)
من كتابي الجديد//
(خمسون بورتريه وبورتريه)
ويصدر الشهر القادم عن دار المسار بتونس
Discussion about this post