مخاض دم قصة واقعية بقم القاصة الهام عيسى
والواقعية في القصص عملية شاقة وعسيرة تستوجب من القاّص نقلها الى حسّ وعمق المتلقي..
عمليّة لا يستقيم فيها تنميق لفظيّ أو ترف لغويّ مالم يكن القاصّ راصدا رصدا دقيقا لمشهد من مشاهد الحياةالواقعية ..عاكسا في مضامينها ما تختزنه هويّة القاصّ من قيّم روحية وانسانية وكونيّة
فلا سلطة اللّغة وحدها كفيلة بتسريب جهامة الواقع من خلال مشهد ما….
وقد استوقفتني مهارة القاصة الهام عيسى في منجزها هذا وسيرها به قي اتّحاه ىالواقعية لتحتضن قضايا وكفاح الشعوب من أجل إحلال السلام والأمان..
وإن كانت القراءة في هذا العمل القصصي ليست مطلقة ولا أخيرة…فاستقبالاتها من المتلقي عديدة وكثيرة …
وقد كانت قراءتي لها كالآتي اعتمدت فيها على العناصر الفنية التاية
الشخصية…الزمان والمكان …الأحداث.البناء..وهي في تواترها لايقوم أحدها بمعزل عن كلّها في تشكيل الحبكة والعقدة والنهاية
وأبدأ
بالشخصية بطة القصة
الممرضة في مخاض دم …ملاك الرّحمة ..وهي شخصية تدفع بالقصّ إلى رحاب المواقف النبيلة الإنسانيّة …ولعل اختيار هذه الشخصية هو ترويج غير مصطنع ولا مقصود من القاصة لقصتها والممرضة كشخصية عامّة نتعامل معها في مرضنا ووهننا شخصية لابد ابراز نبل رسالتها وصرامةعملها ودقّته ..وهي معادلة ابداعيبة بين الشخصية ومهمتها في هذه القصّة
تقول القاصّة
يولد الليل، مع حلول المساء ويسدل وشاحه الأسود خلف ستائره العمياء..
تفوح منه رائحة الدم من كل حدب وصوب٠٠
وهي بداية لصورة ومشهد قاتمين …
ومابين نصّ ورؤيا تقول
فيما يداها الناعمتان بالحناء تقعان على انفها لتُشكّلَ سدا يمنع استنشاق نتن الروائح ٠٠ لم تكفّا عن الارتجاف.. ولم تُبدِ غير خوف ممزوج برهبة خائبة..
فالدلائل اللغوية في بداية القصة تجمع بين مشهد قاتم واسم “ممرضة” في متصوّر ذهني معترف به
ومن غير يدي الممرضة أكثر نعومة وترفّقا بمرضاها …
ومن غير ممرضة ترتجف لارتجاف مريض ..
هاهي تسرع الخطى عاثرة، كانت تدور.. تدور حول نفسها كالرقاص..
لم تكد تأخذ نفسا، حتى عادت مسرعة الخطى، لقد انتهى الوقت المخصص للعلاج.. راحت تلملم روحها، تقبض على يدي المريض لتهدئ من روعه.. يا لهول المشهد
صفات لا يتطرق لها شك مهما تعسّف جاحد أو لفّها إنكار .
المكان
باحة المشفى
مكان حقيقي بكافة تفاصيله وهوما يربط السرد بالواقع طيلة أحداث القصة،
والمكان هوالعنصر الأهم الذي يدفع بالوظيفة السردية،ويتسع رغم حدوده الضيّق لاحتضان الشّخوص والوقائع، والمشفى فضاء مؤثر في المتلقي، ، فهو المكان الذي تقصده أكبر شريحة ممكنة بما على صعيدها النّفسي والجسدي والصّحي،من فزع وخوف وتوجس … وهومنحى آخر من الواقعية في هذا العمل القصصي
يقول القاص ناصر الريماوي في هذا«حتى يتحول المكان في القصة القصيرة إلى مادة فنية رائعة يفترض بنا المواءمة باقتدار بين تلك الواقعية الحنونة، المؤثرة، وذلك المجاز الرحب المحايد، عند التوظيف؛ بحيث يفترض بالجانب التخيلي أن يكون ملهما وحاضرا، حتى في تحرّي الشفافية المفرطة في النقل لذلك المكان، نحو فضائه القصصي.”…
الأحداث
الأحــداث : هي مجموعة من المواقف ينسق بينها الكاتب لتخرج عن هيئة قصة.
· تنمو الأحداث وتتعقد على امتداد القصّة
كما تتعالى أصوات صليل السيوف بكل مكان٠٠ كما نعيق الغربان يخنق زوايا المكان يضجُّ المشفى بالصمت القاتل٠٠ ها قد اغتيل القمر وأخذ غدرا ٠
من زاوية صامتة، ترقب تلك الابواب لما سمعتها تصطك تصفيقا شاحبا محمرا تحت وقع أفواه بنادقهم وأحذيتهم ٠٠ركلات متتاليةٌ تتوالى يقبض كل كائن على قلبه وفكره ومصيره المجهول
كيف لتلك القطرات الدامية أن تسيل من هنا وهناك ، أن تنهمر على الأدراج ٠٠٠ بل كيف تتكدس الأشلاء والجثث في باحة المشفى؟
هناك بالبعيد، شريط أسود من الذكريات يمر خلف تعرجات الطريق المؤدية الى المكان ٠٠٠ ترتعد اوصالها وتتقطع من شدة الخوف. الذئاب تلعق بقايا الدماء٠٠ يعلو صوت قائد القطيع ملوحا للحارس أن يحطم زجاج الغرفة٠٠
فالسّرد جزيئات الوقائع بواسطة تعبيرات قويّة (صليل السيوف…نعيق غربان يخنق زوايا المكان (المشفى )قطرات دامية تسيل هنا وهناك ..اشلاء وجثث
وكأني بالقاصّة أيضا تؤرخ لحرب دموية من الخارج في سرد ذاتي مباشرعلى لسان المتكلم متلبسا لشخصية الممرضة وهو تفاعل القاص ومعايشته الوجدانية الصادقة للحدث الذي يشكل العمود الفقري في القصة.”
والمكان هنامنح القصّة دعائمها وتماسك عناصرها والمكان الواقعي يختلف عن المكان الفني المتخيّل
فهو منبثق بأزمنة الأحداث متسّما بأزمنة إنكسار وهزائم لنضالات من أجل الحرية والكرامة ..كما نستشف أماكن أخرى تتسع للقصة واحداثها ك” الشّارع..الأفق”السّماء
البناء السّردي وخصائصه
اعتمدت القاصة على كثافة السّرد واختزاله في نقل مخاض من الدم في تحد لما يستوجبه من زخم لتخرج لنا قصة بأحداثها
فالّلغة في هذه القصّة وتصوير القاصة لأحداثها الدّموية اتّسمت بالإيغال في الوصف
كقولها “٠ركلات متتاليةٌ تتوالى يقبض كل كائن على قلبه وفكره ومصيره المجهول ٠٠”ترتعد اوصالها وتتقطع من شدة الخوف. الذئاب تلعق بقايا الدماء٠٠ يعلو صوت قائد القطيع ملوحا للحارس أن يحطم زجاج الغرفة٠”
أمّا ما امتازت به البنية السّردية فهو جليّ في ماسادها من توتّر حكائيّ وفصيّ وظّفت فيه القاصّة عدساتها الإداركية والبصريّة وتعمّقها في نقل الحالة السيكولوجية ..
وقد رصدت هذا في بعض المقاطع
محاولة قطع مخاوفها ..يقبض كل كائن على قلبه وفكره ومصيره المجهول ٠٠ها قد اغتيل القمر وأخذ غدرا ٠٠٠!
وتنتهي القصّة ب
كما شبح في كابوس، شدّها من شعرها، فصل رأسها عن جسدها٠٠٠ وبقي يسحل قطع الزجاج قبضاتٍ.. قبضاتٍ.. ويحشو جوفها بشظاياه..
وما كادت تدرك تلك الكتل الكريستالية منها رحم الحياة، حتى توزعت بين اعضائها التناسيلة.. لتشهد ولادةَ الحرية الملطخة بدماء الأبرياء.
فقد سارت بنا القاصّة إلى قفلة نهائية مفاجئة وزجّت بالمتلقي في حالة من التأمّل والتّوليد للنهايات الأرحب فارتددنا إلى العنوان”مخاض دم” كحالة تحتضن حدثا وشخصا
الحدث التّنكيل والتّشويه والتّمثيل بجثّة والشخص هي الممرّضة التي لن تهب غير ولادة وحياة وحريّة …
فأيّ ابداع سيدتي القاصّة وأي قدرة على تلمّس تباشير النور والضياء في نهاية مؤلمة لم تصب فيها شظايا الزّجاج رحم بطلة القصّة بعقم …؟؟؟؟؟؟؟؟
إنّها إرادة الحياة ….وجبروت التّحدي لظلم وتعسّف أعداء الحياة..
قصّة قصيرة تنهل امن واقع أوطننا العربية المغتصبة صاغتها كاتبتها المبدعة الهام عيسى برومانسيّة وقفنا على ملامحها في الأبعاد الإنسانيّة لعمل الممرضة واعتماد القاصة اللغة الشعريّة مؤسّسة مسارا جديدا للقصة الواقعية ..
Discussion about this post