قصة قصيرة
بقلم د حمد حاجي
ا ========= بائعة (الروبافيكا)============
(ماجل بلعباس) قرية من بلادي ..
مسقط رأسي مدينة نابتة بسفوح جبلية شديدة الانحدار.. كل منازلها ودورها قد تمكنت من تسلق شم الجبال، وتعرشت كقطيع ماعز. كأنها تتأهب للقفز إلى قعور الوديان.. تودُّ الانتحار، تظلُّ توهم بالقفز ولا تقفز.. متسمرة ثابتة في متاه الزمان بين رغبة أهلها في الحياة ومضارب مماتهم..
السبت سوقها الأسبوعي.. ينحدر منها للتسوق غبشا طوفان النساء والرجال والفتيان..
ا===
الوقت فجرا ، والأفق ممتد أخّاذ ، السوق على رقعة من الأرض المنبسطة يتثاءب ويفيق على جلبة الباعة..
سائرا على مهل ، أستنشق بعمق نسائم بقايا الليل الباردة . أتملى بمنظر ولادة النور ، مستقبلاً يوما جديدا .
وسريعا تنفَّس الصبح ..وعلى مصطبة تشرف على المتاجر جلست.. آنستني حركة السير المتصاعدة من السفح إلى القاع ..بقيت مذهولاً مغتبطاً أتفحص قطيفة السماء الناعمة وهي تسحب ذراع الليل إليها .
يا للروعة ! لوحة فجرية ، عابقة ببهجة الحياة..
ا======
من ثلاثين عاما لم أحضر سوق البلد ..
بائعة (الروبابيكا)، لم تنتبه حين رأتني أقلب معروضاتها، ولكن لماذا أدهشها قولي ، وما صدقتني؟
إن قطيعة ثلاثين عاما عن البلاد تنسي الإنسان نفسه ؟
من غادر البلاد واستضاء بمصابيح الغربة أبصر ونجا، ومن أعرض عنها وبقي بالقرية ولم يهاجر زل للفقر وهوى..
تبدو في عمري ، تتربع على الأرض وسط بساط مبعثر أمامها تسحب يداها سجاجيد، كراسي مرايا.. فروشات و خزائن عتيقة وصناديق وكل ما تحوي البيوت من أثاث ، صحون قهوة وفناجين وكباب ، حتى فراشي الأسنان ونسافات البالوعات ، ولفائف المراحيض لم تسلم من البيع..
ظلت منهمكة لا توليني اهتماما تفتح صناديق الكرتون وتبحث عن أشيائها، ثم تطويها وتضعها بحنان على البساط.
ولكن عينيها تراقبان كل ما يدورمن حولها .. كانتا جاحظتين, حتى خفت لوهلة أن تندلقا من محجريهما فيتبعثر كل ما فيهما من صور مختزنة على أرضيه المفروش..
لمحت حقيبة سوداء جلدية.. يا لهفتي، كأنها هي ..قفزت إليها.. أخذت أبحث عن المفتاح.. قالت إنه مرميّ في مكان ما .. لم أصدقها أعرف جيدا يومها أين خزنتُه، اقتلعته بسرعة ، مضطرباً ، تنفست بعمق أهدئ نفسي ، ليست هذه هي الحال التي أكون عليها وأنا أواجه هذا الأمر.. أدخلت المفتاح الصغير في قفل الحقيبة ، وأدرته كما يجب ثم رفعت الغطاء..
فتحت فمي مندهشا . غير أني لم أنبس. خفت أن ينكشف سري..
هي .. هي .. كما قبل ثلاثين عاما..!
ا===========
ساعتها ذهب بي خيالي إلى البعيد، حيث أرى نفسي مع مئات المتظاهرين ..
كنتُ شابا بالجامعة يافعا متوقدا كثورة الطلاب..
أجمع الحجارة وأقذفها بكلّ قوّتي، وإذا ما مللت الحجارة أمسكت زجاجة ثقيلة حارقة ألوّح بها وأرمي بها بعيداً وأشارك الرفاق إشعال النار المُحرقة في العجلات المطاطية كي يضيء الأمل في فؤادي ويزيد .
في هذا الريف وبهذه المواقع التي يُقاتل فيها أجدادي الفقر والفاقة ، أدركت وعرفت حينها أنّ عليَّ ان أقاتل من أجل القدس ،من أجل تلك الأرض المقدسة البعيدة في الجليل وفي جنين ودير البلح وبكل شبر من أرض فلسطين .
– ليسقط الاحتلال.. فلسطين عربية.. تسقط الامبريالية والفاشية . تسقط الأنظمة العميلة..
أندفع مع الشباب من رفاقي.. يُحاصرنا الجنود والبوليس المُدجّجين بالأسلحة.
يعلو النشيد وترتفع أعلام فلسطين في السماء.
وتنهمر قنابل الغاز المسيلة للدموع ورائحة دخان رصاص يُلعلع ولا أحد يُفكّر بالتراجع..
تخترقنا سيارات الجيب ..تتدافع الجموع المُقاتلة.. تحتك السواعد بالهراوات ..ثم لا تلبث أن تتراجع .. و تسيل خراطيم المياه تُبلّل الشباب وتُحوّل المواقع إلى برك ماء ينزلق الشباب بينها ويتقافزون، ولا يفتأ صوت الطلقات الناريّة ينتشر ويخيم على المكان ..الجوّ رهيب قاتم وكئيب.
سقطتُ حين سقطتُ بين رفيقاتي من النساء.. صوت تلك الفتاة ظلَّ يجيئ ويهرب.. ودِدت أن أمسكها لأحميها من كلّ أذى .. كانت تلحّ عليَّ أن أذهب وأتركها حتى لا يمسكوا بي ويُلفّقوا لي التهم..
– أسرع قبل أن يدركوك.. أنت تهمّني كثيراً.. سنلتقي ثانية ولن يستطيع أحد أن يُفرّقنا.
شددتُ مودعا على يديها
– ليلى .. انتبهي لنفسك !
ثم ركضت وابتعدتُ..
وحين وصلتُ، وضعت رأسي ببرميل الماء.. أفقت قليلا ..
ولجت غرفتي الغارقة في الظلام .. لم أرغب في إشعال النور.. أخذتُ الحقيبة السوداء فتحتها ورحت أتأمّل تلك القنبلة المسيلة للدموع في العتمة…
ندّت عني ضحكة حاولت كبتها.. ثم أغلقت الحقيبة وسمرتُ المفتاح..أخفيت الحقيبة خلف الجدارحين انتبهت لحركة اخذت تشتد وتزداد ..
.. وفجأة دفع الباب بقوة وانفتحت جهنم على ستّة يُشهرون أسلحتهم : أن إرفعْ يديك واجلسْ بهدوء.
لم أتكلّم.. ولكن هديرا بداخلي يتفجر.. وفيما كان أفراد الشرطة يدفعون بي إلى الخارج ما يزال الشباب يرمون الحجارة ويشعلون النار في الإطارات ويقذفون الزجاجات المُشتعلة ويهتفون.
رآيتها أمامي تسير إلى جانبي وتهتف معي بأعلى صوتها:
– ليسقط الاحتلال.. فلسطين عربية.. تسقط الامبريالية والفاشية . تسقط الأنظمة العميلة..
ا=========
وقفتْ بائعة (الروبابيكا).. تقدمتُ منها .. لامست كفَّيها .. طريَّان كما ذاك اليوم .. صوتها هو .. هو ..
لقد فرقتنا الأيام .. منذ ذلك اليوم لم أرها .. كنت أجهل أنها أصبحت تعيش على ما تجمعه من أثمان ما تبيعه من أثاث قديم ، وظلت على طريق السياسة أشد حماسا حين وهن الكثيرون وتساقطوا على الطريق . فإذا اعتقل أحدهم تكون أسرع من أمه وأبيه ، تحمل قفة الطعام إليه وإذا عادت أمه من زيارته بسجنه تساعدها وتغسل أثوابه وقمصانه.
ثلاثون سنة أكلت نيرانها كل شبابها ….كل شيء فقدته إلا ابتسامتها بقيَت خضراء لم تفحمها النيران.
وشعرت للمرّة الثانية ذلك اليوم، أنّ لنا بهذه القرية النائية البعيدة امرأة عظيمة وأن لنا نشيدا ولنا ما نقاتل من أجله وما يمكن أن نُضحي في سبيله..
وفتحتُ أمام عينيها الحقيبة .. :
– ليلى .. الحقيبة بها قنبلة.. !
– أه … ماذا .. بادرتني .. وتعرف اسمي..؟!
– ليلى ..ليلى.. هاتي قبلة .. ها…أنا
Discussion about this post