د.(كمال العيّادي الكينغ) المستشار الثقافي لصحيفة الرواد نيوز
اليوم هوّ يوم جمعة، ومن المفروض أنّ (الكُتّاب) مغلق، ولكن، ولسبب خاص، ولم يعد سرّا، بعد مرور خمسة وخمسين سنة الآن على حدوثه، فقد كان يعجّ بالتلامذة هذا الصّباح، لسبب وجيهٍ، ولكنّه لا يعنيكم. كلّ ما يمكن تسجيله، هوّ أنّ المُشرف على هذا (الكُتّاب) كان قد أضاف بدعة فتح الكُتّاب صباح الجمعة من الثامنة صباحا، وحتّى منتصف النّهار. فاليوم اذن هوّ يوم جمعة، ويوافق العاشر من أغسطس (أوت) لسنة 1967. والسّاعة تجاوزت الحاديّة عشر صباحا منذ وقت طويل.
هما الآن هنا. ولن تتعرّف إليهما وحدك، لذلك سنتركهما يكبران، ونلتقي بهما بعد عشرين سنة، وسيكونان قد أكملا دراستهما الجامعيّة الأولى، وسيجمعهما القدر مرّة أخري خلال شهادة الكفاءة في البحث سنة 1987 و في سنة الحصول على شهادة التّبريز سنة 1990، بعد ختم دروسهما بالمدرسة العليا للمعلّمين وبالمعهد الصّادقي.
الأوّل الذي يتطلّع إليك الآن باستغراب شديد، كونك تطلّ عليه من كوّة زمنيّة تبعد عن حدود زمنه بخمسة وخمسين سنة، هوّ الأستاذ الدّكتور الألمعيّ، ورئيس اتحاد الكتّاب التونسيّن وصاحب المُؤلّفات العديدة، ومنها كتابه (أزمة المسلم الأخير) الصّادر عن منشورات دار الجمل بألمانيا وكتاب (اللابشريّ، هذا السّويّ الذي لا يُحتمل) وكتاب (الأدب عند العرب) وغيرها من المُؤلّفات المتينة. إنه في السّادسة من العمر، فهو من مواليد يوم الإثنين الموافق للسّابع والعشرين من فبراير 1961، وسيلتحق بعد شهر واحد بالمدرسة الإبتدائية، ثمّ بالمعهد الصّادقي. نعم، إنّه هوّ نفسه والله: (أ. د. العادل خضر)، الباحث والجامعي المرموق والنّاقد الألمعيّ الذي يتدافع الطّلبة لحضور محاضراته التي يتفنّن في جعلها ساعات أنس وخلط بين الجدّ والهزل. ولا تنزعج من نظراته. فما كان لبشر أن يخترق البرزخ إلا بسلطان. هوّ لا يراك بالفعل. لكنّ حاسته السّابعة متطورة جدّا بالنّسبة لطفل مُتبرّم من بطء حركة الزّمن. فمنذ سنوات ونحن بين السّاعة الحادية عشر ومنتصف النّهار، هكذا كان يُعبّر عن نفاذ صبره بعد ثلاث ساعات من الدّخان والعنكبوت وآخر البقرة.
أمّا ذاك المنهمك منذ ساعة في رسم عصفور، وهو يشطب ريش جناحيه للمرّة الألف حتّى ينسجم مع طول ذيله وتناسقه مع حجم الشّجرة والغابة لاحقا، فهو أصغر من رفيقه ببضعة أشهر. فهو من مواليد صباح يوم الخميس الموافق لليوم الثالث من شهر ماي 1962
..وهو أحد أهمّ الباحثين والكتّاب التوانسة والرّوائي التّونسيّ الوحيد الذي نال جائزة البُوكر العربيّة لسنة 2015, عن روايته (الطليان)، فضلا عن جائزة الملك فيصل العالميّة بعد ذلك سنة 2018، والذي سيتولى رئاسة جامعة منوبة والعديد من المهام الأخرى كمحكّم ومستشار تحرير بالعديد من الدّوريّات والإصدارات الأدبيّة مثل مجلة (أيلا) ومجلّة (Romano Arabica) وغيرها. نعم، إنّه هوّ نفسه، الدكتور شكري المبخوت.
قبل أن يفترقا، سيكون كلّ منهما، قد أتى على كلّ ما يمكن قراءته بمكتبة (باب الأقواس) بقلب المدينة العربي، ودون أن يتدخّل القدر كثيرًا، ستتشكّل أولى نواة ذائقتهما الأدبيّة وشغفهما بالقراءة، في هذه المكتبة بالذّات، متدرّجين مع رفوفها، من قصص سلسلة المكتبة الخضراء، وأرسين لوبين وآغاثا كريستي والمنفلوطي وجرجي زيدان وكلّ ما توفّر من القصص والرّوايات اليافعة باللّغتين، العربيّة والفرنسيّة…
أمّا الأكبر بأشهر، فسيختار طريق الآداب بالمعهد الصادقي ويبقى وفيّا لطريقه حتّى اليوم، ليكون الأستاذ الدكتور، الباحث الألمعيّ (أ. د. العادل خضر)… وأمّا الثاني، فسيختار طريقا آخر، ويتّجه إلى شعبة العلوم، قبل أن يتدارك الأمر في آخر سنة له بالمعهد، ليختار مادة الآداب وهو بالسّنة السّابعة، ويبدأ نجمه في الصّعود، حتّى أنَه ترجم كتاب (الشّعريّة) لتودوروف، وهو مازال في أوّل سنواته الجامعيّة الأولى، ليصبح بعد ذلك، الباحث والكاتب الموموق (د. شكري المبخوت)
✍️: (أ. د. عادل خضر: هل هوّ سائق مُتهوّر، أم هوّ شجرة ؟!)…
يحكى أنّ طفلا صغيرا، اقترب من سور حديقة جارهم، النّحّات العجوز. وكان يهمّ بصخرة كبيرة ويجسّها من كلّ جانب, فسأله مندهشا من حركاته الغريبة قائلا :
– لماذا تجسّ الصّخرة وتدقّ عليها هكذا يا عمّي؟
فأجابه النّحات العجوز بنظرة حالمة:
– أريد أن أجعل منها حصانا يا ولدي.
ضحك الطّفل الصّغير من سذاجة وحمق الجار العجوز, وانطلق يجري, مستجيبا لنداء والده الذي كان قد انتهى من ترتيب الحقائب استعدادا للسفر و لقضاء أسبوعين، في الرّيف, بعيدا عن ضوضاء المدينة وصخبها.
بعد مضيّ أسبوعين, عاد الطّفل مع عائلته, وانتبه لوجود حصان بديع بحديقة الجار العجوز. وحين اقترب من سور الحديقة الفاصل, رأى جارهم النحّات العجوز، مشرق الوجه، يقلّم الأغصان، وهو سعيد ومُبتهج, فسأله منبهرا :
– أرجوك خبّرني، كيف عرفت, بأنّ الحصان كان متخفّيا كامل الوقت داخل تلك الصخرة, يا عمّي ؟؟!!….
* * *
أحيانا، وبالنّسبة لي، أغلب الأحيان، نحاذر كلّ الوقت أن لا نصطدم بالشّجرة خاصّة أنّها على جانب الطّريق. وهووووب، وبكلّ سرعتنا الجنونيّة، نلبس الشّجرة، وكأنّ القدر يقودنا. وربّما، بل ويقينا لابدّ وأن يكون ذلك، كذلك. فأختنا الشّجرة لا تتحمّل معنا المسؤوليّة في أننا دخلنا فيها. وحتّى الأحمق بل والأشدّ حمقا، يعلم أنّ الشّجر لا يُمكنه أن يحيد عن مكانه ولا أن يقلّع عروقه، ليبتعد خطوة عن طريق هذا السّائق المتهوّر…كلّ هذا جميل، لكن ما دخله بالعادل خضر، ومن منكما السّائق ومن الشّجرة، قشّر الشّيطان جلدك؟!….المفروض أنني أعني نفسي بالسّائق المتهوّر، وأنني بالطّبع أعني الدكتور العادل خضر بالشّجرة، كون المثال الذي أدرجته، لم أذكر به متهم ثالث، غير تصاريف القدر الغامض!
لكنّكم ستستغربون، أنّ ما أعنيه عكس ذلك تمامًا. فالحقيقة، ومسطرة الحادث، تؤكّد فعلا، وبالدّليل القاطع، بأنّ الدكتور العادل خضر الأكاديميّ الرّصين، الوقور، هّو الذي قاد الأحداث إلى ما آل إليه الحادث. وحتّى تكون الصّورة واضحة أكثر، فسأبدأ منذ البداية:
عشيّة الثلاثاء الموافق لليوم السادس والعشرين من شهر أكتوبر لسنة 2022، سيتصل ناقد وباحث وأستاذ جامعي، عبر الماسينجر بكاتب منفلت وشرس وعرف بمهاجمته للنّقاد والإكادمييّن وسيعلمه في ثلاثة أسطر، أنّه سيكون موضوع ورقة متينة بندوة يقدّم فيها بعض الباحثين الأكادميّين ورقات حول اليوميّ في مُدوّنة السّرد التونسيّ الحديث….ولأنها كانت تمطر، فقد اختلط الأمر على كاتبنا الشّرس، فظنّها أحد فذلكات السّماء التي تعوّدت مداعبته في المنام واليقظة وكانت تسوق له براهين وحجج، أنّ ما لا ينبغي له أن يكون، هوّ كائن بالفعل، لكنّ ثمّة غبش وضباب، يربك الصورة….وخلال عشرة أيام فقط، سيتمكّن بأعجوبة، من إجبار هذا الكاتب على جمع كلّ ما هوّ متناثر هنا وهناك، من بُورتريهات، وينجح في جمع خمسين بورتريه ويقترح أن تنشر في كتاب ورقيّ متين….وكان ذلك كذلك. وكان الكتاب جاهزا قبل أن يمضي عشرون يوم على أوّل تواصل بينهما: النّاقد الرّائي الألمعيّ، والكاتب المنفلت الذي لا يُدجّن. وحدثت المعجزة:
لقد كانا منذ البدء متشابهان في تركيبتهما ومعدنهما رغم كلّ الاختلافات في الظاهرة. فكلاهما كان يستلف من يوم الغد ساعة ليعمل 25 ساعة في اليوم. وكلاهما جُبل على عبادة العمل والتراكم دون الإلتفات إلى الخلف. وكلاهما عاشق للحياة مقبل عليها، ويحرث الأراضي المهملة دون انتظار لشكر ولا يُحرّر فواتير…
وكان كلّ ما تبقى هوّ البورتريه الأخير….البورتريه الواحد والخمسون….ليكون عنوان الكتاب:
(خمسون بُورتريه….وبورتريه)
في غبش الفجر من يوم الخميس الموافق لليوم العاشر من شهر نوفمبر، لسنة 2022, سيتصل هذا الكاتب المنفلت بصديقه الدكتور شكري المبخوت، وقد إنتهى إلى قرار نهائي وحاسم، وهو أن يكتب البورتريه الواحد والخمسين في نفس اليوم… وأن يكون بورتريه مشترك، لصديقين بداءا معا من الكتّاب وأصبحا من أهمّ علامات المدوّنة الأدبيّة والنقديّة في تونس….وسيعرض عليه الفكرة، فيُرحب بها بصدق. وحينها سيسأل هذا الكاتب بمكر:
– لنبدأ منذ البداية. كلّ ما أعرف أنّك في الخامسة من العمر، وأنّه صباح جمعة، ولنفترض أنّه العاشر من شهر أغسطس (أوت) 1967 فأين أنت الآن. ومع من؟!
وكانت الإجابة:
– أنا يومها في (الكُتّاب) وقد ختمنا العنكبوت والدّخان وآخر البقرة… وذاك الطفل الذي يتطلّع لنا باستغراب شديد، هوّ الدكتور العادل خضر ولم يكمل السّادسة بعد
Discussion about this post