بقلم أ. د حسين علي الحاج حسن
قالت: ما هذا الذي جاءني في عزلتي؟!!.. ولماذا أنا؟!!…
فجاءها جوابه مسرعاً: أنا.. يا سيدتي..
وصمت دون أن يخبرها أن ذلك كان مصادفة..
قالت: إذن.. أخبرني ما الذي تريده مني يا هذا؟!!!…
أجابها: لي إسم ينادوني به، .. وأنا لست إشارة يشار لها بالبنان..
أردفت قائلة له دون تردد: أنا أتكلم معك في لغتي،.. وبحريتي..
فقاطعها ضاحكاً .. ثم أجابها بهدوء: لا عليك.. فربما كلماتي استفزت كيانك وانوثتك؟!!..
سكتت قليلاً ثم أجابته بحنقها: لا.. لماذا تستفزني؟.. وهي تكتم غيظ كلماتها أمامه تملقاً،.. ليسألها مرة جديدة دون تردد قائلاً: لماذا أنت دائماً حانقة على كل شيء؟ّ!!.. وتشكين بما يدور من حولك؟!!.. فأجابته قائلة: ليس من شأنك.. معرفة كل شيء عني؟!!.. أجابها: لا لست ساعياً لمعرفة أي شيء، إنما دعيني أسألك أمراً .. فقاطعته قائلة: لا.. لا أريد الكلام معك أيها الغريب..
ضحك في سره من ردها الحانق ومضى مبتسماً إلى سكونه.. فنادته بصوتها الرخيم قائلة: مهلا.. أيها الغريب لا تترك مكانك.. اخبرني لماذا نعت أمسيتي بالحانقة؟!. فالتفت إليها متأملا، ثم أجابها: ولما لا انعتها بذلك؟!..
نظرت إليه مستغربة وقالت له: أمسيتي ليست حانقة يا سيد .. وأنت تتحامل كثيرا بكلماتك.
قالت كلماتها تلك مكابرة.. وهي تدرك أن أمسياتها لم نكن كأمسيات الآخرين …، وأنها كانت تخفي فيها مكنوناتها الصامتة،… ففي الأمس القريب.. أدركت ذلك .. حين سألها قائلا: كيف حالك؟.. وكيف ترددت في الإجابة عليه، مكابرة؟!،.. لكنها كانت تدرك في سرها وعمق وجدانها..، ان حالها قد بات أسيراً للماضي البعيد .. وكانت تعلم انها اذا ما نطقت بذلك،.. فإن أي كلمة من كلماتها ستضعها ونفسها أمام محاكماته القاسية،.. وهي بالغنى عن كل ذلك.. وستدرك حينها لو أنها حدثته عن حالها.. لباتت فاقدة لكل شيء من حولها، .. وستعلم ان كل ما قيل لها سابقآ.. ما هو إلا عبارات واهية أمامه.. لا تخفيها الأيام… فهي كانت تدرك في قرارة نفسها حين سألها عن حالها وساد صمتها مترددة في الإجابة عليه، أن صمتها الطويل كشف عن خفاياها، فقد كان يحاكي ذلك نفسها ومكابرتها أمام زمانها الذي جعلها أسيرة لوجدها .. في وحدة طواها الزمن والنسيان،.. ما جعلها تلوذ بصمتها الثقيل مرتبكة أمام ذلك الغريب..
لم تكن تلك السويعات التي مضت من حياته، إلا رحلة قصيرة من زمن مضى وانتهى إلى غير رجعة، كانت كل أحلامه تتأرجح أمام ذكرياته، التي لم يبق منها إلا صور باهتة جمعها من أزمنته الغابرة، فجعلته يسير وحيدا في طرقاته البعيدة، متأملا بما يدور من حوله، ومدركاً في قرارة نفسه أنه ذاك الغريب.. الذي أوصدت أمامه كل الأبواب، فإذا ما تحدث لنفسه مخيرا إياها قال لها: لم تغريني يوماً كلمات الإطراء، أو تأخذ حيزا وجوديا من حياتي، بل كنت أمر عليها مسرعا، فلا تستوقفني هنيهة، لأني كنت أبحث عن شيء في أعماق نفسي، فلا اعرف كيف أدرك كنه أو أصل إليه، فيما كان ليلي يؤرقني ويجعلني أسيرا له، .. فتتجاذبني حيرة نفسي، لتنتهي حيرتي في لحظات من التجلي والإطمئنان في خريف العمر .. والربح بيننا شاهدة
نظرت إليه والربح تلفح وجهه فتطاير خصلات شعره، ثم قالت له:
هل لك أن تحزم امتعتك وترحل عني، فأنا لا أحتمل السجود فوق الجمر، ولا اطيق القيود، التي تخنق تنهدات العمر وتأوهات الأجساد المسجاة بين الموت واللا موت، بين استكانات الصبا، وزفرات الرياح العاصفة، ونيران الهول التي تلتهم هشيم قلبي الضعيف.
ثم اردفت قائلة:
أما أنثاي .. فتائهة بين سراديب الظلمات في هذه الحياة المعوجة، يجتاحها الاعصار حينا، ويكويها السير في صحراء الواجفين أحياناً.
آه يا أنت .. صدعت فؤادي الواجل، بغياهب ظلمات لا يفقهها، إلا من بات يناغي الوجد في سر البوح والصمت.
ما الذي تبغيه…؟! .. أيها القادم من فضاءات هذا العالم الغريب، المليء بضجيج السالكين في غير دروب الإنس،.. تعتلي بصائرهم أرواحا تمردت على ضنك المشاعر، و اضمحلال أديم الجباه المعفرة، بمرارات خبز السنين، وكهولة الرحى البالي، بين يدي ماجن عتيق، دار به وجع الأمس،.. وشحوب ثنايا كادت لولا شذرة من قديم، لماجت واحترق فتيل سراجها بنفخة مسلوب سجين.
من أنت؟ .. ومن أي الربى جئت؟.. أجئت من خلف الأطوار؟.. أم جئت من الزمن الغابر؟.. تعالج ما تبقى من همس الجوى،.. لتخبر عن سهم اصاب ثم كوى .. ألا يكفي الرواشن ان تكترى؟ لتسحق ما تبقى من زفرات…
لو أتيح لها لثارت وتحدت أساطير ادونيس وعشتار، وكل مكنونات الخصب لآلهة الفينيق والرومان وسديرات المنتهى… .ثم صمتت عن كلامها.. فنظر إليها دون أن ينبث بكلمة ومضى..
كانت قطرات الشتاء تتساقط بهدوء، وهي تقف على شرفتها، تتأمل بالمارين من تحتها، وتنتظر زائر المساء، الذي كان يأتيها بين الفينة والأخرى،.. يسلم عليها.. وينظر اليها متأملا.. ثم يغادر بصمته، كأنه يبحث عن شيء ما.. كان قد أضاعه،.. أو كأنه كان يريد ان يصل إلى شيء ما،.. لكن دون جدوى، فيما هي،.. كانت كل يوم تنتظره كعادتها، في مكانها المعتاد، وإذا ما جاء لم تترك له مجالا ليفصح عن مكنوناته، فقد كانت متسرعة دائما في احكامها، واذا ما تكلم معها، تجاسرت عليه بحروفها مكابرة، وقالت له: ما الذي تبغيه مني ؟!.. وإذا استفاضت بالكلام أكثر ، تثاقلت، ثم اردفت قائلة له: أرجوك،.. ان ترحل بعيداً عني، فانا لا أريد ان أكلمك.. أو تكلمني،.. وإذا ما نطقت بهذه الكلمات، كانت تدرك في سرها، أنها تهرب من ذاتها إلى الأمام خوفاً من ان تكون يوماً ما اسيرة له، رغم انها كانت دائما تنتظره على شرفة منزلها.. الذي ينزوي في طيات النسيان… أما هو فما كتم أمره.. فقد قال لها: ستعلمين كل شيء، .. وتدركين ان صمتي، قد كان انيسك الوحيد في وحدتك، .. وان الأوتار التي كانت تشدو نغمها وسمعتها،.. كانت تدغدغ المشاعر في أعماقي خلسة،.. لتزدان في أيامها الأخيرة..، وستدركين حقا عندما كنت تعرجين على بابي زائرة في امسياتي الصامتة، أن تلك النظرة الساكنة، كانت أسيرة وحبيسة في
مدلهماتها.. كأن الحكاية كلها.. ما كان ينقصها إلا ذاك الألم المبعثر في ثنيات ليل حالمة، كما لو أنها كانت تلك النبوءة من جديد.
كانت تنصت بإمعان لكلماته، وتدرك في قرارة نفسها وعمقها أنه يصيب منها أمرا،.. وأن ما قاله، كان صادقاً به، فهو أصدقها القول، .. و كانت تدرك ان صمتها ملاذها وانيسها الوحيد، الذي تلجأ إليه في وحدتها رغم مكابرتها المعهودة وعنادها المتجاسر، فتتحسر على زمانها الذي وجدت نفسها فيه..، كما لو أنها أخفت كل شيء عن انظارها كصور غاربة وضائعة في صفحات الماضي البعيد،.. فهي كانت قد أدركت حقيقة ما قاله لها، في امسياته التي طواها النسيان، فهامت به وبنظراتها الساكنة في حكاية الألم الخافت.
تأملت به مليا ثم اردفت قائلة له: لعلك لم تدرك ما كنتٌ فيه، فجعلت كل شيء بين يديك مبعثرا في ثنيات ليل الحالمة التي ذكرتها لي،.. كما لو أنك أردت أن تخبرني عن نبوءة زائفة؟!.. لكن دعني اخبرك بشيء عني، لعلك ما عرفته أو خبرته سابقآ، أنا يا سيد.. من سكنت الروح فيها، فجعلتها لا تحلم بما دون النجوم .. أردت يوما أن… فقاطعها دون تردد قائلا لها: أنا ياسيدة لست دون النجوم وهذه نسائم طيفي.
… لطالما تحدث عما افاضت به شجونه، وتحفظ كثيراً بمشاعره الدفينة نحوها، إلا أن ما جمعهما كان بضعة كلمات حكمت فيها الصدفة بينهما، في حين أراد منها أن تدرك بنفسها ما عجت به نفسه، من ود يخفيه في مكامنه، دون أن يدرك حقيقة مشاعرها، إلى أن قالت له يوما: أريد أن أسألك سؤالا، هل تجيب عليه بصراحة؟.. ممكن؟!..
أجابها قائلا: أنا اسمعك.
قالت له: لا، لا بد أن تعدني بصراحة .. هل تجيب أم لا ؟!..
أستغرب طلبها متغافلا.. كأنه لا يعلم ما يدور في خلدها وقال لها: بعمري ما قلت إلا الصراحة.. فأنا لا أقيم وزناً لشيء. ثم سكت مستنطقا إياها فيما هي كانت تستمع لرنين كلماته، مرتبكة .. وتحاول صياغة مفرداتها بهدوء.. فكلامه لها كان قد دفعها لمصارحته..، فسألته قائلة: لماذا افتعلت الحوار معي؟.. ولماذا مشاكستي؟!.. ما الذي دفعك لذلك؟!. أجابها قائلا: استفزاز شخصك وانوثتك. فردت عليه: لماذا؟!. اجابها.. صدقا لا أعرف.
لم يقنعها جوابه.. إنما أرادت أن يستفيض في كلامه أكثر.. لتخرجه عن صمته، فقالت له بثقة: أنت تعرف.. لكنك لا تريد القول.. مكابرة..
سمع كلامها وافتر ثغره مبتسما.. ومن ثم مضى.
Discussion about this post