في حوار مع الأديب العراقي علي لفتة سعيد
الكتابة فعل مخيّلة وفعل ذاتي غير محدّد الأطر، وأكثر ما يستفز الكاتب هو المسكوت عنه
أحمد طايل…مصر
..من نعم الله على هو عشقي الدائم للقراءة والسباحة بعوالمها، أصحو من نومى، أمد يدى، أتناول كتابا، ربما لا أقرؤه لحظتها، أتمتع بتقليب صفحاته، صوت الورق لدى موسيقى تنفذ إلى، أوكسيجين نقى يجدد خلاياي، لحظاتي الأسعد حينما أتناول كتابا، وأجلس بالشرفة، اقرأ بتمعن، محاولا النفاذ إلى ما بين سطور الكاتب وأهدافه المعاون والخفية، الجوالات المستمرة بعالم الثقافة تقربني مسافات من فهم الثقافات والأفكار والرؤى، حريص دوما على محاورة الأصدقاء المولعين بالكتابة على تعدد أنواعها، وهنا أنا أتحاور مع كاتب له بصمته الخاصة والمميزة بعالم الإبداع، متعدد المناحي الإبداعية، رواية، قصة، دراسات نقدية، مقالات، موسوعي، الكاتب العراقي (على لفته سعيد ).
= إذا أردنا أن نتجول بعالمك الإنساني والإبداعي، ماذا ستخبرنا عن المعلوم وغير المعلوم؟
* أنا إنسان بسيط لا توجد تلك المفازات التي تخفي خلفها الأكمات لكي يبحث الآخر عمّا خلفها.. ولدت كأيّ مولود من الطبقات الفقيرة.. لا هم له سوى أن يمضي يومه بلا بكاء.. لكن هذا البكاء لم يكن طفوليا بل استمر حتى وأنا بعمر الستين.. لأني ولدت يتيم الأم.. وهو ما أثر على العاطفة الشخصية والتركيب النفسي الذي جعلني أعيش حنينا جارفا لكل ما هو حولي.. أنتمي الى الضعف الذي يعيشه الآخرون الأكثرية، لا الى منطقة القوة العالية.. تدمع عيني لرؤية طفل يتيم مثلما تدمع حين أرى عاملا يشقى ليحصل على قوت يومه، أو امرأة تربّي أطفالها لأن الحرب سرقت زوجها..
وليس لي غير ربيع واحد محدّد بالكتابة.. ربما هي المساحة الوحيدة التي أعوّض فيها تلك الحرمانات العديدة لتخضر كتبا وأفكارا ومعاندة وروحا.. ربما كان الحرف وسيلتي الوحيدة لمعادلة الحنين وفقدانه بولادة معادل ضامن للفرح وتعويضا عن بكاء متناسل صار هوية.. فكانت أثماري التي بدأت وأنا بعمر 15 عاما حين نشرت أول قصيدة لي في جريدة الراصد.. ثم تستمر بعدها الاثمار التي لعلها الآن هي أشجار وأتمنى أن يراها المتلقّون أشجارا مثمرة.. بينها 13 رواية ومخطوطتان.. وست مجاميع قصصية ومخطوطة.. وأربع مجاميع شعرية ومخطوطة.. وست كتب نقدية.. ومسرحية واحدة ومخطوطة.
= بعمرنا الممتد عقودا زمنية، عشنا وتربينا على الحكايات والمشاهدات، التي تترسخ أكثر بعمر الطفولة، ما مردودها عليك؟
* لا كاتب بلا حكايات مترسّخة.. ولا كتابة بلا حكاية يراد لها ان تستخرج من معين وعين الذاكرة والحياة والواقع والمخيلة.. فنحن نولد والحكايات تضخ في مسامعنا، ومن ثم تعيش معنا وتتنقل معنا، ومن أحسن الاختيار لها كان متحدّثا للحكايات أيضا.. ولذا كانت الحكايات التي يسردها أبي في ليالي الشتاء هي الاكثر تأثيرا على ذلك الطفل الذي ينام في حضنه ليسمع أوّل الكلمات التي تخرج من فمه، قبل أن تصل الى آذان الآخرين.. كانت الحكايات هي المعين الأكبر – وقد عرفتها بعد ذلك – في كيفية ترتيب الحكاية كتابةً، بعد أن كان أبي ماهرا في ترتيب الحكاية شفاها، ويستمر بها ليالٍ لا تقل على الثلاثة.. الحكاية أثر اجتماعي وتأثير بلاغي وغاية وعي وهمة تفكير وضخ معلومة وتأمّل معاني.. الحكاية الأولى للطفل هي منبع ونبع، تبحث عن مسيرة لتبيان رسم مصبها عبر مسالك.. فمن أتّقن المسير وصل الى المنبع، لعلنا تمكّنا من المسير وإن كان وسط الشعاب الوعرة.
= متى أحسست أن بداخلك نداءات للكتابة، والتجربة الأولى، كيف كانت، ومن أول قارئيها، وردود الأفعال؟
* أنا ولدت في مدينة جنوبية عراقي سومرية اسمها سوق الشيوخ.. وهي امتداد لسومر وسوقها التاريخي.. وهي ملتقى القوافل والسفن يوم كان الخليج يضرب حدود أور، هي المدينة كأيّ مدينة تاريخية لها جذور تعيش روحها وتمسك معالمها كي لا تتأثر بالطوارئ التي تفرضها المتغيرات السياسية.. ولهذا فهي المدينة التي تتنفس الشعر. وكنت أسمع من أخي الذي يكبرني بثلاثة أعوام كيف يقرأ الشعر ويطارحه مع زملائه، ويتسابقون في الحفظ.. وكنت أسمع حكايات أبي وما يكتبه من شعر شعبي يقال عنه ( أبوذية).. وما بين هاتين العلاقتين وإن مالت الكفّة لأبي كانت الصيرورة الأولى للطفل الذي هبّ الى المكتبة العامة الحكومية في المدينة، ليقلّب مع أخيه في أدراج العناوين لعلّه يعثر على كتابٍ يغريه في القراءة، فجذبتني الحكايات من جسد الروايات العربية، وأكثر ما جذبني تلك الحكايات التي تكتب بلغةٍ عالية. فقد سحرتني اللغة وكأنها مسكتني من رقبتي لتقودني إليها.. أبحث عن تلك اللغة التي لا تشبه لغة حكايات أبي البسيطة المليئة بالمخيلة.. ولأني ابن مدينة شعرية فقد كانت أول الكتابة هي قصيدة ثورية لوم أتوان في إرسالها الى الصحف، كأن تلك اليد التي مسكتني هي التي توجّهني الى ذلك، وحين نشرت وكان لا أحد يعلم ولم يكن لي قارئ أوّلي بل كان قارئي البحث عن تعويض حياتي.. البحث عن خلاص من الحزن والفقر والجوع والبكاء.. وحين نشرت كانت اليد قد تحوّلت الى لسان يحذر ويشجّع معا.. ها أنت في الطريق إياك أن تتركه، فارمه بما تشاء، وكن علاقتك بالحرف علاقة روح وجسد، فلا يغادر أحدكما الآخر.
= ما الأطر التي تضعها أمام بصرك حين الكتابة؟
* لا أطر على الإطلاق.. الفكرة هي التي تحدّد كيف أسير وأخطّط وأمشي لتكون في النهاية الإطار الذي يغلّف تكوين الحكاية. الكتابة ليست معادلات رياضية لكي أضع أطرا ومحدّدات ومسارات كي لا تكون النتائج غير مطابقة.. الكتابة فعل مخيّلة وفعل ذاتي غير محدّد الأطر، ولذلك هي فعل رياضي ذهني لا يمتلكه إلّا من كانت له مخيّلةً ناضجة، تبقيه على الدوام مثمرا في الطروحات، متنوّع في الأفكار.. الأطر التي تأتي ولابد من وجودها هي في كيفية تحويل الفكرة الى عمل أدبي مقبول وموفّق.. الفكرة هي التي تحدّد كيفية الإنتاج، إن كانت قصة أو رواية أو قصيدة نثر أو نصّ نثري.. الكاتب الجيّد هو ما يشبه الخيّاط الماهر الذي يعرف خياطة جميع أنواع البدلات، أما الذي لا يمتلك موهبة الخياطة الأدبية فتراه يختصّ بنوعٍ محدّد من ( الخياطات ) ويهاجم من يتنوّع فيها وله القدرة على ممارسة الكثير من الأجناس الأدبية.. الكاتب الجيد هو الذي يحدّد أطره بالاعتماد على الفكرة التي تأتيه ليصوغها قطعةً أدبية، ثم يضع لها تعريفا لجنسها.. الكتابة ليست استعراض عضلات، بل هي إمكانية لاستعرض العضلات من أجل التمكن من الانتصار على الفراغات التي قد تحصل، وهي فراغات سلبية.. الكاتب الجيد هو الذي ينتج نصّا قليل الفراغات حتى لا يدخل الغبار بين مساماته الكثيرة.. لأن لا نصّ بلا عملية الوقوع في فخّ هذه الفراغات، ولكن كلما قلّت كلّما زادت صلابة النصّ وبنائيته.
= ما الذى يستفزك دوما الهرولة إلى الكتابة؟
* الكاتب عليه أن يبقى دوما في حالة استفزاز من كلّ ما يصادفه.. الاستفزاز الإيجابي الذي يجعله يشبه الصيّاد الذي يرمي سنارته في النهر لعلّ سمكةً كبيرة يصطادها.. بدون استفزاز لا مجال للكتابة لأنه سيتحوّل الى منظّم حروف، أو منتظرا لما تؤول إليه حالته النفسية ويتحوّل مثل موظّفٍ عليه إنجاز تفاصيل وظيفته.. الحياة كلّها عيارة عن تسلسل استفزازي مستمر.. والذكي من ينتبه لأي استفزاز يمكن أن يحوّله الى منتج إبداعي.. ولهذا أعتقد أن لا شيء كتب بلا استفزاز إبداعي وفكري لينصع موقفا.. كل ما نراه في الحياة عبارة عن حدث وفعل.. ولهذا فإن ردّ الفعل هو تحويل الحدث والموقف الى منطقة إبداعية.. حين نقرأ التاريخ نستفز وحين نتأثر بالمقولات نستفز وحين نتأثر بالواقع السياسي نستفز.. الأديب عبارة عن مجموعة من المصائد المهيأة لصناعة ردّة الفعل لفعل الاستفزاز.. فكل ما حولنا هو مؤثّر بشكلٍ أو بآخر.. والأديب هو المنطقة الأولى التي يتأثّر بما حوله حتى لو كان نصّا نثريا لشاعر آخر، أو حكمة لفيلسوف، فكيف بما يصنعه الواقع من استفزازات عديدة بعضها تيصل الى مرحلة الموت والأثر البالغ؟
= هل تسكب بعضا من سيرتك الذاتية على كتاباتك ؟، وهل من الضروري للكاتب أن يفعل هذا ؟
* نعم في بعضها ما هو شخصي وخاص حين تكون الفكرة أقرب الى الحالة الشخصية، هناك شيء غامض ما بين المخّيلة والفكر الشخصي والرأي الشخصي والحياة الشخصية، بل حتى المواقف، فهي تنعكس على النصّ شاء الكاتب أم أبى.. لأنه إنسان له موقف وتجربة ورسالة يريد إيصالها. لذلك أكثر ما يستفزّه هو المسكوت عنه.. فالأديب الذي لا يكتب عن المسكوت عنه كأنه يلوّن لوحةً بألوانٍ باهتة يعرفها الجمهور.. مثل من يرسم قوس قزح عرفه الجمهور منذ مئات السنين.. والمسكوت عنه يحتاج الى رأي أو مجموعة آراء وخاصة في الرواية، ولهذا يكون الرأي الشخصي أو السيرة الذاتية أو التعبير عن موقف المؤلّف جزء من التكوين للنص، سواء كان يعلم أو لا يعلم.. فمثلا، سألني ناقد وأديب عراقي كبير.. هل أمّك ميّتة؟ قلته له نعم.. قال كلّ ما قرأت لك وجدت إن الأم ميتة، وهو أمر لا يمكن مغافلته عن سيرتي الشخصية.. وكذلك في المسكوت عنه.. فأنا أريد التعبير عن موقفي اتجاه القضايا التي تهم الإنسان.. ولهذا قال عني بعض النقاد.. أنني أكتب أفكارا لا حكايات.
= الزمان والمكان ما مفهومها لديك؟
* الزمن علاقة صيرورة ثابتة.. والمكان علاقة متغيّرة، رغم إنهما يتقلبّان في الذات والحياة.. ولهذا فإن لي كتابا نقديا عنوانه ( مفهوم الزمن ودلالته في النص السردي) أبيّن أثره وتأثيره على النص، الزمن يتغيّر بمعادلة الحدث، والمكان يتغير بمعادلة التنقل.. فالمكان الجبلي لا يتحوّل الى سهول أو بحار.. والمكان النهري لا يتحوّل الى صحراء، ولو تحوّل بفعل العوامل الطبيعية فإنه سيبقى أثرا.. لكن الزمن له فاعلية وقوع الحدث، ولذلك فإن كلّ الكتابات التي تعتمد على الواقع أو التاريخ هي روايات الحدث، أي روايات الزمن.. فالذي يكتب عن العراق مثلا في الحقبة العثمانية غير الذي يكتب عن الحقبة ما بعد التحوّل من الملكية الى الجهورية، وغير ما يكتب عن حقبة الحروب والاحتلالات.. المكان ثابت لكن الزمن تغيّر بحوادثه وأحداثه ومتغيّراته، سواء الاجتماعية أو السياسية أو الدينية.. وايضا، ما كان العرب عليه في منتصف القرن العشرين يوم كانت المواجهة مع الاستعمار والإمبريالية تحوّل الزمن الى المواجهة مع الأنظمة.. ثم تحوّل الى المواجهة مع المتغيّرات التي أحدثها ما يطلق عليه الربيع العربي، ثم صعود المدّ الديني والطائفي ليكون بديلا عن المدّ القومي والعروبي.. هذه متغيّرات زمانية بأحداثها لكن المكان واحد.
= هل للكاتب زمنا يجب أن يعتزل به الكتابة؟
* الكتابة رياضة ايضا.. لكنها لا تحدّد بعمر أو زمن.. لأنها رياضة فكرية.. نعم قد يحدّدها عارض مرضي أو اجتماعي.. أو الأمر المرتبط بالموت، أو ما هو مرتبط بالسلطة والسياسة.. بمعنى إن الكاتب الحقيقي لا يمتلك فرصة الاعتزال، لأن له رأسا مملوءً بالأفكار.. وكلّما تقدّم بالعمر كلما نضجت المخيلة وزادت الحكمة والدراية والموضوعية وفصل بين العاطفة والعقل ويعرف كيف يلتقط الأفكار ويصوغها نصًّا.. فالمرحلة الأولى مرحلة القراءات والتتبع والاستقصاء والإسقاء، هي مراحل تحتاج عمرا، وإذا ما وصل الى مرحلة متقدّمة من العمر يكون الزرع أكثر نضوحا وأسرع إنتاجا زمنيا,, لذلك فالاعتزال قد يكون مؤثرًا خارجيا.. حالة نفسية ضغط سياسي.. هروب من واقع مدنس قابض على الحياة..
Discussion about this post