في مثل هذا اليوم 27 اكتوبر1952م..
ميلاد فرانسيس فوكوياما، فيلسوف أمريكي
يوشيهيرو فرانسيس فوكوياما (إنجليزية: Yoshihiro Francis Fukuyama) (ولد 27 أكتوبر 1952) هو عالم وفيلسوف واقتصادي سياسي، مؤلف، وأستاذ جامعي أميركي. اشتهر بكتابه نهاية التاريخ والإنسان الأخير الصادر عام 1992، والذي جادل فيه بأن انتشار الديمقراطيات الليبرالية والرأسمالية والسوق الحرة في أنحاء العالم قد يشير إلى نقطة النهاية للتطور الاجتماعي والثقافي والسياسي للإنسان. ارتبط اسم فوكوياما بالمحافظين الجدد، ولكنه أبعد نفسه عنهم في فترات لاحقة.
يعمل فوكوياما في مركز الديمقراطية والتنمية وسيادة القانون بجامعة ستانفورد منذ 2010. قبل ذلك، عمل أستاذاً ومديرًا لبرنامج التنمية الدولية في كلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جونز هوبكنز وأستاذ السياسة العامة بجامعة جورج ماسون. تتمحور أطروحات ومؤلفات فوكوياما حول قضايا التنمية والسياسة الدولية. من مؤلفاته النظام السياسي والاضمحلال: من الثورة الصناعية إلى عولمة الديمقراطية (2014)، أمريكا على مفترق طرق: الديمقراطية، السلطة، وميراث المحافظين الجدد (2006)، مستقبلنا بعد البشري: عواقب ثورة التقنية الحيوية (2002)، الثقة: الفضائل الاجتماعية و تحقيق الازدهار (1995)، الخلل الكبير: الطبيعة البشرية وإعادة بناء النظام الاجتماعي (1999)، وأصول النظام السياسي.
بالإضافة لعمله الجامعي، عمل فوكوياما في قسم العلوم السياسية بمؤسسة راند ولا يزال عضواً في مجلس أمنائها، مجلس إدارة الصندوق الوطني للديمقراطية، ومؤسسة أمريكا الجديدة. كما عمل في هيئة تخطيط السياسات بوزارة الخارجية الأمريكية في الثمانينيات. شارك في تأسيس مجلة آميركان إنترست عام 2005 وهو رئيس هيئة التحرير. فوكوياما زميل في معهد السياسة الخارجية بجامعة جونز هوبكنز، وزميل غير مقيم في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي ومركز التنمية العالمية، عضو في مجلس الرئيس الأميركي للأخلاقيات البيولوجية، جمعية العلوم السياسية الأمريكية، ومجلس العلاقات الخارجية، والمجلس الباسيفيكي للسياسة الدولية.
نهاية التاريخ والإنسان الأخير
تعد أطروحة نهاية التاريخ والإنسان الأخير التي نشرها في مجلة ناشيونال إنترست عام 1989 قبل أن يتوسع فيها ويؤلف الكتاب، من أشهر أطروحات فوكوياما والتي جادل فيها بأن تطور التاريخ البشري كصراع بين الأيديولوجيات إنتهى إلى حد كبير، مع إستقرار العالم على الديمقراطية الليبرالية بعد الحرب الباردة وسقوط جدار برلين عام 1989، وتوقع فوكوياما انتصار الليبرالية السياسية والاقتصادية في نهاية المطاف. فوكوياما يقصد نهاية التاريخ كاتجاه وليس كأحداث، الديمقراطية الليبرالية هي تتويج التطور الأيديولوجي للإنسان، وعدم وجود بديل غير بربري وخطير يعني أن الحجج الآيديولوجية للآخرين لا ترقى لمقارعة الديمقراطية الليبرالية. مثل هيغل وماركس، لا يعتقد فوكوياما أن تطور المجتمعات البشرية بلا نهاية، لكنه يكتمل عندما تجد البشرية التنظيم الاجتماعي الذي يشبع احتياجاتها الطبيعية والأساسية:
« ما نشهده ليس مجرد نهاية الحرب الباردة، أو مرور فترة معينة من تاريخ ما بعد الحرب، ولكنها نهاية التاريخ على هذا النحو … هذه نقطة النهاية للتطور الأيديولوجي للبشرية وبداية عولمة الديمقراطية الليبرالية كشكل النهائي للحكومة الإنسانية»
شهد القرن التاسع عشر فترات سلام طويلة وتزايدت معدلات الرفاه والتفاؤل لسببين:
الإيمان بأن العلم الحديث سيحسن من حياة الإنسان ويخلص البشرية من الفقر والمرض وسيتمكن الإنسان من السيطرة على خصمه القديم المتمثل بالطبيعة بواسطة التكنولوجيا الحديثة.
ستستمر الديمقراطيات الحرة بالانتشار في مزيد من البلدان.
فكان هناك إحساس طاغٍ أن الثورتين الفرنسية والأميركية حطمتا عروش الطغاة والأوتوقراطيين وكهنة «الخرافات الدينية» واستبدلتهم بسلطة عقلانية يتساوى فيها جميع الناس في الحقوق. من طفرة التفاؤل، كُتب أن حرية التجارة تجعل فكرة التوسع بالحروب غير منطقية، حتى الموسوعة البريطانية الصادرة تلك الفترة كتبت أن التعذيب موضوع تاريخي وهذه أهميته الوحيدة ما تعلق الأمر بأوروبا. الحرب العالمية الأولى شكلت صدمة قوية وقاسية لتلك التوقعات وهدمت فكرة التقدم الإنساني في الوجدان الأوروبي. فكل القيم التي أوجدها البرجوازيون من الإخلاص والعمل والمثابرة والقومية أُستخدمت في مجازر وحشية كان يموت فيها عشرات الآلاف يومياً للسيطرة على بضعة أمتار مربعة. صعود الفاشية والنازية والستالينية والحرب العالمية الثانية أظهرت أن السياسة الحديثة خلقت دولاً بالغة القوة بأجهزة أمنية فعّالة وهو ما أدى إلى صياغة مصطلح الشمولية لرغبة تلك الدول السيطرة على كافة أوجه الحياة العامة والخاصة. عرف العالم طغاة في السابق، ولكنهم لم يستطيعوا تحقيق ما حققه أدولف هتلر وجوزيف ستالين لأن إبادة قطاعات مجتمعية بأكملها مثلما حدث في الغولاغ والهولوكوست، لم يكن ليحدث لولا الحداثة وتسخير تلك القوى للتكنولوجيا والتنظيم السياسي الحديث لخدمة أهدافها. فنظريات القرن التاسع عشر كانت تربط المآسي الإنسانية بالتخلف الاجتماعي ولكن مجازر النازيين وقعت في أكثر أمم أوروبا تقدماً صناعياً وأنجبها ثقافة وتربية.
هذه الأحداث وغيرها خلال القرن العشرين، بددت أوهام التفوق الأخلاقي والعقلاني لأوروبا وبدأوا بمراجعة فرضية ما إذا كان الاعتقاد الرابط بين التقدم والديمقراطية الليبرالية يعبر عن مركزية إثنية ضيقة. فتعزز التشاؤم الغربي من إمكانية انتشار الديمقراطيات وإزدهارها، بل قبلوا بوجود بديل قوي للديمقراطية الليبرالية وهي الشيوعية. كانوا يعرفون عن الفشل الذي أصاب الدول الاشتراكية ويدركون أنها لم تحظى بأي درجة من الشرعية أمام الشعوب، ولكن قدرة الشيوعيين على التحكم بشعوبهم عن طريق الرقابة على أسس المجتمع لم يقدم أي أمل بقدرة الأنظمة الشمولية على التغيير من تلقاء نفسها. تلك الأنظمة لم تخف شعوبها فحسب، بل أجبرتها على تبني نفس قيم أسيادها الدكتاتوريين. لم يشهد العالم بمجمله كوارث جديدة خلال النصف الثاني من القرن العشرين وبدأت الأنطمة السلطوية بالانكشاف والانهيار شيئاً فشيئاً، وتلى انهيارها قيام أنظمة ديمقراطية ليبرالية، وبعضها انزلق إلى اللا استقرار السياسي أو شكل آخر من أشكال الديكتاتورية. إذا كان التحديث السياسي أدى إلى قيام دول شمولية وسلطوية، فان أواخر القرن العشرين كشفت الضعف البنياني لتلك الأنظمة وهو ما تطلب مراجعة النظرة المتشائمة لسيرورة التاريخ وفقاً لفوكوياما.
عواقب ثورة التقنية الحيوية
صدر هذا الكتاب عام 2002 وفيه يجادل فوكوياما بأن التكنولوجيا الحيوية تسمح للبشر بسيطرة مباشرة على تطورها الطبيعي، وقد تسمح بتعديل طبيعة الإنسان وهو ما يعرض الديمقراطية الليبرالية للخطر. وصف فوكوياما البعد إنسانية بأنها من أخطر الأفكار في العالم. نمت حركات تحررية كثيرة في العالم المتقدم، من المدافعين عن الحقوق المدنية والحركات النسوية إلى المدافعين عن حقوق مثليي الجنس. ولكن هناك حركات «غريبة» كما يصفهم فوكوياما، لا يريدون أقل من تحرير الجنس البشري من قيوده البيولوجية. البعد إنسانية موجودة ضمناً في كثير من جداول أعمال البحوث البيولوجية المعاصرة. التكنولوجيات الجديدة الناشئة من مختبرات الأبحاث والمستشفيات سواء عقاقير تغيير المزاج، مواد زيادة كتلة العضلات، عقاقير محو الذاكرة الانتقائية، الفحص الجيني قبل الولادة، يمكن بسهولة أن تستخدم لتعزيز القدرات البيولوجية للبشر وتخفيف حدة الأمراض. الجنس البشري هو جنس ضعيف في نهاية المطاف، أمراضه تتطور باستمرار، يعاني من القيود المادية، ويعيش حياة قصيرة والمحظوظ من يعيش إلى سن الـ 100. بالإضافة إلى الغيرة، العنف، والقلق المستمر، تبدو مشاريع البعد إنسانية منطقية وجذابة. ولكن فوكوياما لديه نظرة مختلفة ويجادل بأن المجتمعات قد لا تقع فريسة سهلة لنظرة دعاة بعد الإنسانية ولكنهم قد يقعون في شراكها دون إدراك، نظرا للمغريات البيولوجية التي يقدمونها بثمن أخلاقي فادح.
أول ضحايا البعد إنسانية هي المساواة. يقول فوكوياما بأن الولايات المتحدة شقت طريقاً صعباً في هذا الجانب فأكثر الصراعات السياسية جدية في تاريخ أميركا كانت تتمحور حول من هو الذي يمكن اعتباره إنساناً. إعلان الاستقلال الأمريكي شدد أن «كل الناس خلقوا سواسية» ولكن مع ذلك، السود والنساء لم يعتبروا كذلك وفق تفسيرات معظم الأميركيين عام 1776. الفكرة الكامنة وراء المساواة في الحقوق هو الاعتقاد بأن جميع البشر يمتلكون جوهر الإنسان الذي يقزم ويقلل من قيمة الاختلافات السطحية مثل لون البشرة، الجمال، وحتى مستوى الذكاء. هذا الجوهر الذي يفيد بأن لكل البشر قيمة متأصلة، هو قلب الليبرالية السياسية ولكن تعديل هذا الجوهر هو أساس مشروع بعد الإنسانية. إذا ما حاول الإنسان أن يجعل من نفسه أكثر تفوقاً بيولوجياً، تتراود أسئلة عن نوعية الحقوق التي سيطالب بها هولاء البشر المتحولون مقارنة بالذين لم يحظوا بنفس الفرص ليجعلوا من أنفسهم بشراً خارقين. إضافة إلى الآثار المترتبة على المواطنين في دول فقيرة حيث عجائب التكنولوجيا الحيوية على الأرجح ستكون بعيداً عن متناول الناس، تهديد فكرة المساواة يصبح أكثر إزعاجاً من الدول المتقدمة. فالفكرة هي أن تكنولوجيا كهذه ستجعل من الأقوياء حالياً أقوى وتخلق طبقة اجتماعية تدعي لها حقوقاً أكثر استناداً على تفوقها الجسماني أو الجيني.
يجادل فوكوياما بأن البشر هم أعجوبة منتجات معقدة لعملية تطورية طويلة، خصائصهم الجيدة مرتبطة ارتباطا وثيقا بتلك السيئة. العنف والعدوانية هما السبب وراء قدرة الإنسان على الدفاع عن نفسه. مشاعر الإحساس بالتفرد والتميز، هي الدافع وراء الإخلاص للمقربين. الغيرة هي الدافع الحقيقي خلف الحب. حتى الوفاة تلعب وظيفة هامة في السماح للجنس البشري ككل في البقاء والتكيف، فآخر ما يريده الناس هو دكتاتور يعيش طويلاً ولا يموت. تعديل أي من الخصائص الرئيسية لدى البشر يستلزم لا محالة تعديل حزمة معقدة ومترابطة من الصفات الإنسانية، ولا يوجد أحد قادر على التنبؤ بالنتيجة النهائية لهكذا تعديلات. بالنسبة لفوكوياما، لا يمكن الوثوق بعلماء البيولوجيا لأن هدفهم الرئيسي هو التغلب على الطبيعة وغالبهم لا يهتم لأي اعتبارات أخلاقية، وهناك الأخلاقيون البيولوجيين وهدفهم الأساسي هو تبرير وتقديم المسوغات لكل ما يريد أن يقوم به العلماء.
الجدال حول هذه القضية ليس حكرا على الجانب الذي تحدث عنه فوكوياما وهو الجانب السياسي فهناك جوانب أخرى ولكن هناك من رد على الجانب الذي أشار إليه فوكوياما. الانتقادات لنظرة فوكوياماتجادل بأن الليبرالية السياسية هي ما سينظم الحياة في مجتمع ما بعد الإنسانية، لأن البيولوجيا لم تكن العامل المحدد أو المحرك للحقوق السياسية والمدنية. الليبرالية لم توجد على أساس المساواة الفعلية بين البشر، بل بالمساواة في الحقوق وأمام القانون. كما أن الهندسة الوراثية قد تخفف من الفوارق بين البشر بدلا من تفاقمها، فهي تتيح لكثيرين امتيازات كانت في السابق حكراً على قلة. الليبرالية السياسية ليست في خطر بل هي من سيضمن حقوق الأفراد في مجتمع ما بعد الإنسانية لجوهرها القائم على تطبيق القانون على الجميع مهما كانوا أغنياء أو فقراء، جهلة أو متعلمين، أقوياء أو عاجزين، معززون بيولوجياً بفضل الأبحاث أو غير معززين. والجدل لا يزال مستمراً.
الطبيعة البشرية وإعادة بناء النظام الاجتماعي
صدر هذا الكتاب عام 1999 ويجادل فيه أنه منذ الستينات وحتى التسعينات، معظم الدول الغربية شهدت خللا في نظامها الاجتماعي. يظهر هذا الخلل في ثلاث محاور :
زيادة معدلات الجريمة.
تراجع الثقة في الآخرين.
انهيار منظومة الأسرة نتيجة ارتفاع معدلات الطلاق.
على مدى نصف القرن الماضي، تحولت الولايات المتحدة وغيرها من البلدان المتقدمة اقتصاديا إلى ما يسمى «مجتمع المعلومات» أو عصر المعلومات، أو العصر ما بعد الصناعي. هذه المرحلة الانتقالية تسمى بـ«الموجة الثالثة»، يعني أنها ستكون في نهاية المطاف تتبع موجتي سابقة في التاريخ البشري : من البدائية إلى المجتمعات الزراعية ومنها إلى الصناعية. المجتمع المتمحور حول المعلومات يميل إلى إنتاج أكثر شيئين قيمة للناس في معظم الدول الديمقراطية الحديثة، وهي الحرية والمساواة. انفجرت حرية الاختيار في كل شيء من قنوات التلفزيون إلى مجمعات التسوق منخفضة التكلفة والتقاء الأصدقاء على شبكة الإنترنت. الهرمية بجميع أنواعها السياسية والمؤسسية، أصبحت تحت ضغط متزايد وبدأت في التآكل.
الناس يربطون عصر المعلومات بظهور شبكة الإنترنت في التسعينات ولكن التحول من العصر الصناعي بدأ في وقت أقدم من ذلك، تميزت الفترة منذ ما يقرب من منتصف الستينات إلى التسعينات بتدهور خطير في الأوضاع الاجتماعية في معظم دول العالم الصناعي. بداية بالجريمة وتزايد الفوضى الاجتماعية بشكل جعل وسط المدينة في أغنى المجتمعات على الأرض غير صالح للسكن تقريبا. تراجع الأسرة كمؤسسة اجتماعية والتي ظلت مستمرة لأكثر من 200 سنة بشكل متسارع في النصف الثاني من القرن العشرين. تراجع الزيجات والولادات وارتفاع معدلات الطلاق. واحد من كل ثلاثة أطفال في الولايات المتحدة وأكثر من نصف الأطفال في الدول الاسكندنافية ولدوا خارج إطار الزواج. وأخيرا انخفاض الثقة في المؤسسات الحكومية فبرغم أن الغالبية العظمى من المواطنين في الولايات المتحدة وأوروبا أعربوا عن ثقتهم في حكوماتهم ومواطنيهم في الخمسينيات، أقلية صغيرة بقت على موقفها بحلول التسعينات. برغم عدم وجود ما يثبت أن العلاقات الإنسانية أصبحت أقل، إلا أنها لم تعد بذات الديمومة والمرونة وتقتصر على مجموعة أقل من الأصدقاء والمعارف. اليابان وبعض الدول ذات الأغلبية الكاثوليكية استمرت بالتمسك بالقيم العائلية التقليدية بشكل أوضح من الدول الاسكندنافية أو العالم الناطق باللغة الإنجليزية، وهو ما وفر عليهم الكثير من التكاليف الاجتماعية السلبية. ولكن من الصعب تصور أنها ستكون قادرة على الصمود على مدى أجيال قادمة، ناهيك عن إعادة تأسيس أي شيء مثل الأسرة النواة في العصر الصناعي.
هذه التغييرات كانت دراماتيكية ووقعت على نطاق واسع في بلدان متشابهة؛ وكلها ظهرت في نفس الفترة من التاريخ تقريبا. هذه التغيرات أحدثت اضطراباً كبيراً في القيم الاجتماعية التي كانت سائدة في مجتمع العصر الصناعي خلال القرن العشرين. وبرغم الانتقادات الموجهة للمحافظين لتركيزهم على فرضية الانحطاط الأخلاقي، يقول فوكوياما بأن المحافظين محقون مبدئياً. يشدد فوكوياما أن جداله ليس من الحنين إلى الماضي، ولا هو نتاج ضعف في الذاكرة، أو محاولة للتقليل من آثار الجهل والنفاق الاجتماعي في العصور السابقة، بقدر ماهو تراجع اجتماعي حقيقي قابل للقياس بسهولة بالنظر إلى إحصائيات الجريمة، والأطفال الغير شرعيين واليتامى، وانخفاض فرص التعليم وتحقيق النتائج المرجوة منه وما شابه ذلك أشكال الاضطراب.
هذا الاضطراب يفسره فوكوياما بترادف انتقال تلك المجتمعات من العصر الصناعي إلى عصر المعلومات، كثيرة هي الايجابيات التي يصدرها الاقتصاد القائم على المعلومات، ولكن هناك تأثيرات سيئة أيضا على الحياة الاجتماعية والأخلاقية. الطبيعة المتغيرة أدت إلى استبدال عقلية العمل البدني ودفعت الملايين من النساء إلى أماكن العمل، الابتكارات في مجال التكنولوجيا الطبية مثل حبوب منع الحمل وزيادة طول العمر أدت إلى تراجع دور الأسرة، تنامي الثقافة الفردية يؤدي إلى الابتكار والنمو وهو ما امتد إلى المعايير الاجتماعية حيث تآكلت تقريبا جميع أشكال السلطة الاجتماعية، كل هذه العوامل المذكورة آنفاً ساهمت في هذا «الاختلال الاجتماعي».
ولكن هناك جانب مشرق، فتعطل أو اختلال النظام الاجتماعي يعني العمل على تجديده. البشر بطبيعتهم حيوانات اجتماعية، وغرائزهم الأساسية تدفعهم إلى إنشاء قواعد أخلاقية متجددة تربطهم ببعضهم البعض كمجتمعات، فهم حيوانات عقلانية وهذه العقلانية تدفعهم إلى إيجاد سبل عفوية للتعاون مع بعضهم البعض. الدين برغم أنه قد يكون مفيداً في هذه العملية، لكنه ليس شرطاً أساسياً لا غنى عنه كما يروج المحافظون، ولا الدولة القوية والتوسعية ضرورية كما يعتقد بعض اليساريين. الحالة الطبيعية للإنسان ليست «كل رجل ضد رجل آخر» كما تصور توماس هوبز بل هي في مجتمع مدني منظم تحكمه قواعد أخلاقية. حقيقة تؤكدها الأبحاث الجديدة في علم وظائف الأعصاب، وعلم الوراثة السلوكي وعلم الأحياء التطوري، والأنثروبولوجي.
إذا كانت التكنولوجيا تصعب من عملية الحفاظ على تقاليد مجتمعية قديمة للمجتمع، سيسعى الجنس البشري تلقائياً للخروج بمنظومة أعراف وتقاليد جديدة لتتناسب مع مصالحهم الأساسية. العديد من المناقشات حول مفهوم الثقافة تعامل النظام الاجتماعي كما لو كان مجموعة ثابتة من القواعد المتوارثة عن الأجيال السابقة. السياسة العامة محدودة نسبيا في قدرتها على التلاعب بالثقافة، فأفضل السياسات العامة هي تلك التي تتشكل عبر الوعي المجتمعي الواسع بقيوده الثقافية المعرقلة. الثقافة قوة ديناميكية متجددة باستمرار، إن لم يكن التجديد عن طريق الحكومات فهو عن طريق تفاعلات الآلاف من الأفراد الذين يشكلون المجتمع. على الرغم من أن الثقافة تميل إلى التطور ببطء مقارنة بالمؤسسات الاجتماعية والسياسية الرسمية، إلا أنها تتكيف مع الظروف المتغيرة. دراسة كيفية نشوء النظام الاجتماعي ليس نتيجة وجود وصاية سلطة هرمية من أعلى إلى أسفل سواء كانت سياسية أو دينية قدر ماهو نتيجة للتنظيم الذاتي من جانب الأفراد، يعد أحد أكثر التحولات الثقافية إثارة للاهتمام في العصر الحديث وفقا لفوكوياما.
مال فوكوياما إلى تعميم التاريخ بأسلوب هيغلي فوفقا لنقاد، هو يميل إلى اعتبار كل تطور في فترة تاريخية متقاربة نتيجة لظاهرة واحدة. إذا كانت اليابان وكوريا الجنوبية نجت من ما يسميه بالـ«خلل الاجتماعي» برغم أنها مرت بنفس التغيرات الاقتصادية التي يقول فوكوياما أنها تسببت بهذا «الخلل» في أمكنة أخرى، فهو يخلق معضلة غير مريحة للهيكل الأساسي لنظريته. يعترف فوكوياما في نهاية كتابه بأن هذا «الخلل الكبير» في طريقه نحو الزوال، بدلالة انخفاض معدلات الجريمة والطلاق ومشاكل شرعية الأطفال منذ التسعينات، تزايدت معدلات الثقة والآثار السلبية للفردية تقترب من نهايتها وهو ما يطرح السؤال عن فائدة أول مئة صفحة من الكتاب. ومع ذلك، فإن الكتاب قيم لدارسي تقلبات النظام الاجتماعي وبرغم أن القضايا والحلول التي قدمها أميركية خالصة، من السهل رسم أوجه التشابه مع مجتمعات أخرى، تواجه نفس المشاكل أو قد تواجهها في المستقبل.
Discussion about this post