طبعة من الخوف
شغلتُ نفسي كثيرا بالرصد والترقب، فقط لأعرف عدد طلاتهِ بالشهر.. وكيف؟
مشاعل حقول ( نهران عمر) أحيانا تلقي ضوءا وحمرة على البيوتات الطينية المتناثرة وسط كثافة الزرع. أعتدنا في أعماق الليل الساكن أن تتحرك أشياء كثيرة، وليس من السهل معرفة ماهيتها، فالنباتات المتسلقة والمتشابكة هي الفواصل أو السواتر بين فضاءات الدور وحظائر الحيوانات، وداخل هذه الحواجز بعض الممرات والمسالك وكذلك جحور للأفاعي والحرشفيات.
الجميع يفترش الفناء صيفا ويغط في نوم عميق بعد عناء نهار استنزف كل قواهم .
وخلف تلك التجمعات كان هناك ما يسمى بالشط الكبير.
أستطيع ان أميز الأحياء من الأصوات التي ترافق حركتها وهي تشق طريقها ولا مجال للخطأ في ذلك التكهن ، والجميع لا ينكر وجود الجن والاشباح في هكذا مناطق زراعية متناهية القدم، أما ظهورهم فهي محددة بمواقيت مبهمة.
والغريب في دوامة الإنتظار أن الليالي التي نرى فيها الجن يعقبها حوادث سيئة، فمرة أكلت الذئاب أربع
وزات ، ومرة أخرى شب حريق في أحد أركان البيت فالتهم علف الماشية، وآخرها انقطاع ال ( فروند) مما أدى الى سقوط والدي من نخلة عالية، وغيرها كثير.
فكرت أن أطيل النظر إلى هذا الكائن المخيف السيء الطالع وهو يعبر المكان لأعرف ملامحهُ وشكلهُ.
قالت جدتي:
_ قليل من الملح، مع مسمار، وسكين تحت الوسادة تجعلنا بمأمن من تقمص روحه أجسادنا، وإياكم والنظر اليه! ومنها بدأت أرصد حركته في الذهاب والإياب بأصغاء مرهف، كنت حذرة في توجيه بصري إليه ، إذ لم أجرؤ على تحريك رأسي ثم تخليت عن فكرة أكتشاف شكله وملامحه. _ولكي نبعده عن هذا المكان نحتاج إلى طلاسم وتمائم، وربما صيام أيام وإفطار على ماء بئر وخبز من الشعير. هذا ما أكدته الجدة وهي مستسلمة لخيالها. مرت ليال ليست بالقليلة وأنا أكافح كي أكون متيقظة وان أتظاهر بالنوم.
وفي ليلة ظلماء ليست ككل مرة يأتي في أول الليل ويعود قبيل الفجر، شعرت ُ بتلك الحركة ، رأيته يعبر
الباحة ويدخل إلى الجوار،يعبر تلك الاغصان الخضراء المتداخلة والمتعانقة والشائكة تاركا وراءه صوت (خرخشة) مألوفة، ولكن.. سرعان ما عاد الصوت ثانية وبصورة مضاعفة. أعتمدتُ على أذني وإحساسي لأجزم أنهم أثنان! حركتُ عيني الى أقصى حدٍّ، رأيتهُ يتقافز على أربعة ككتلة مدورة بلباس ابيض فضفاض، يتبعه آخر يشبهه تماما لكنه بحجم أصغر منه، كان يتقافز بصورة منتظمة بينما تابعه كثير التعثر، ينحرفان نحو جهة اليمين التي تقود الى فضاء خارجي. بدأ قلبي وكأنه يريد أن يخرج من صدري بدقاته المتسارعة،يشاركه عقلي ضاجا بالأسئلة. ما هذا التابع!… وفي ثوان معدودات أختفيا.. ولم يتركا أثرا سوى صوت ذلك النباح المتواصل وهو يبتعد متقطعا..
صباحا هرعتُ إلى مكان تعثر التابع الصغير، لاستكنه سره فلم أجد سوى فردة نعل مقطوع!.. بينما أنشغل الجميع بحادثة سرقة قارب مربوط على جرف الشط الكبير..
………..
هناء العامري/ العراق
Discussion about this post