قراءة في مسرح المخرج والمؤلف المسرحي العراقي “منعم سعيد” من خلال مسرحيته القلق.
إبراز جماليات النص بتعميق الشخوص؛ والتركيز على الأزمة بتكثيف العقدة المسرحية.
قرأها / د. أيمن دراوشة
———————————————————
يقدم لنا المخرج المسرحي العراقي منعم سعيد مونولوجًا دراميًا فائق الجودة تموَّن من ستة مشاهد تحبس الأنفاس، وقد أحسن المؤلف صنعًا باختياره عنوان قلق وليس كابوس حتى لا يكشف سر المسرحية ودهشتها، فالتراجيديا تستمد عظمتها من سر الإنسانية وغموض مصائرها وأحوالها، مثلما تجسَّدت في تصاعد الأزمة من المشهد الأول إلى المشهد الأخير، ولعل أهم ما يميز مسرحية القلق نهايتها المدهشة التي تريح أعصابًا كانت مشدودة ومنهارة (القارئ – المشاهد) مما أكسبها بعدًا حادًّا وعزلة مخيفة لبطل المسرحية حيث حاصره هذا الكابوس من جميع الجهات.
إنَّ المعطى الجمالي للمسرحية تشكل من جملة من العناصر زادها تلاحمًا تلاحمها وتواكبها وكأنها جدلية تناسقت أو ضفيرة تناسبت.
ولعل من أهمها ” البناء الدرامي المحكم” الذي اتسم بالكمال وتكوَّن من عدة عناصر، ومرتبًا ترتيبا مدهشًا منظمًا بصناعة حاذق مسيطر.
لقد أحدث هذا الترتيب تأثيرًا فاعلا لدى المشاهدين أو القارئين حيث قام المؤلف بحبكة درامية غرائبية شكلت التنظيم العام للمسرحية باعتبارها كائنًا متوحدًا يقوم على هندسة المشاهد وبراعة ربط بعضها ببعض، مع مراعاة لغة وحركة الأداء المسرحي، وقد التزم كل مشهد بضرورة وجوده حتى إذا حذفنا مشهدًا أو غيرنا مكانه أصيبت المسرحية بخلل في كل بنائها.
لقد أثَّرت في شعورنا الحبكة الفنية الجيدة تلقائيًا، فالأحداث المتوالية سارت مع الأحداث التي سبقتها في تسلسل منطقي بارع.
أمَّا العقدة فقد كانت نقطة حاسمة معقدة، وهذه العقدة هي تنظيم محكم وتنسيق ذهني ماهر لمادة الحياة نفسها حيث قامت على التصميم الفكري.
نص المسرحية
تأليف / المخرج المسرحي / منعم سعيد
مسرحية بانتومايم
“القلق”
تأليف منعم سعيد
المشهد الاول
هو يجلس في مقدمة وسط المسرح متقرفصاً يتدلى رأسه بين فخذيه وقد كوره بين يديه، يتململ قليلا ثم يستقر بنوم عميق يصحبه مؤثر صوتي من موسيقى تملأها الفقاعات، حين ذلك تنزل من سقف المسرح نخلة بسبع سعفات، وجذع من الفلين كأنها من عهد عتيق، إنها لا تشبه النخيل بواقعه، تتدلى فوق الرجل الذي وضع قدميه على عارضة من الخشب، وقد حجبت وسط جسمه الذي لن نرى منه سوى رجل ملموم بجسده المنكمش على بعضه البعض، تزداد حدة المؤثر الصوتي وتظهر معها حركة جسده بالتدريج، وكأنه ينغمر بكابوس لمجموعه من البشر التي تشبه الحيوانات الخرافية من بطاريق وقرده تثير استفزازه الذي يتضح من حركته القلقة وهو في قرفصائه فتتحول إلى ارتجافات وإرهاصات تجعله يفقد استقرار نومه إلى أن يرفع رأسه من بين فخذيه وهو يعيش هستيريا مستمرة يشعرنا بعدم سيطرته على أي عضو من أعضاء جسده فتتنامى حالته إلى فقدان السيطرة على تفاصيل جسده الأخرى حد التمرد اللاإرادي، فالرجل يعيش كابوسًا مرعبًا تهرول حوله تلك المخلوقات الغريبة حتى تخرج من ساحة المسرح، وفجأة يرى نفسه مرتاباّ بشكل مهوس وضنك مزعج ثم ترتفع ساقاه إلى أعلى وهو يمسك بهما دون جدوى، واللتان تفقدا السيطرة بحركاتهما نزولا وصعودا بشكل عشوائي يثيرا خوفه المتنامي بعد أن ينجر نصف جسده الأعلى إلى الخلف وتبقى قدماه ترفسان بمكانهما وكأن جذعه انقصم.. ينسحب إلى عمق المسرح حتى نراه يمتد عدة أمتار وما زالت قدماه مكانهما تراوحان بالهواء وتتناوبان نحو الأعلى والأسفل، وما زال نصف جسده الأعلى متراجعًا إلى الخلف حتى يدخل الى كوّةٍ بكالوس في عمق المسرح، ثم فجأة يخرج من أعلى الكالوس يمد يديه فوق إطار الكالوس من الأعلى وقد مشت أصابعه فوقه حتى امتدت ذراعاه وهما تستطيلان كل منهما إلى أكثر من طولهما بأضعاف ، حتى تستمرا بسيرهما إلى جوانب الكالوس الكبير بشكل غير معقول حتى عدة أمتار بشيء من الخيال لا يصدق، فتحتضنا الكالوس من جهتيه اليمنى واليسرى، وقد بقي رأسه يراقبهما تارة، ويراقب ساقيه اللاتي ما زلن في مقدمة المسرح وبينما يداه بعد ذلك الاحتضان يعودان إلى نصف جسده الأعلى ويلتحقان بجذعه ورأسه ليشكلا نصف جسده الأعلى مرة أخرى في محاولة لجر قدميه البعيدتين في مقدمة المسرح، وتحدث المعجزة بسحبهما واحدة تلو الأخرى وهما تلتصقان بأسفل مقدمة الكالوس الكبير كل منهما بجانب منه ثم يجمع جسده بمعاناة شديده تتضح من حال رأسه الذي يحاول التركيز والسيطرة بشكل يكاد أن يكون كالمعجزة للملمة هذا الجسد المتناثر في المسرح عندها يقفز الرجل من الكالوس إلى وسط المسرح .
المشهد الثاني
يقف مندهشًا باستغراب لما حوله من خواء حتى يسمع صوت كلب قادم من بعيد يثير فيه الخوف والجبن، فيركض صوب يسار المسرح لكنه لم يبتعد عن مكانه قيد أنملة يركض في مكانه، وأثناء ذلك يقترب صوت الكلب بنباحه الوحشي فيسرع أكثر حد الإعياء، ثم يتعثر ويسقط لكن صوت الكلب يتضح أكثر حتى يقترب منه ثم يتعداه دون أن يعمل معه شيئًا ويمر عابرًا إياه دون أن يؤذيه، فتزداد دهشته وشعوره بالخواء ويتنفس الصعداء، ثم ينظر الى السماء وكأنه يشكر ربه على سلامته من الكلب المتوحش الذي تعداه دون أذيه إلا أنه يهبط مرة أخرى إلى الأرض عند مشاهدته لشجرة تنزل إلى الأرض من أعلى سقف المسرح بشكلها المثير للشك، لكونها خاليه من الأوراق ليس فيها سوى أغصان عريضة ومدببة ومخططه باللون الأبيض والبرتقالي وكأنها صنعت من جلد حمار وحشي إلا أنَّ خطوطها ليست بسوداء ينتفض ويبتعد عنها، ثم يحاول اكتشافها عن بعد وجلاً .. يقترب منها شيئا فشيئًا حتى يلمسها بأطراف أصابعه ويزيد من لمسها مرة أخرى واخرى بحذر شديد حتى يطمئن لها جيدًا، يشعر بالتعب والتعرق ويدنو من جذع الشجرة الملونة ينظر إلى قرص الشمس اللاهب فيجلس؛ تفيئا بظلها؛ لينام هنيهة.. يشعر بالاسترخاء يجد مكعبًا أبيض صغير يقترحه وساده لرأسه المتعب لينام حينها يصدر صوت شخير متقطع كما لو أنها اختناقات متفاوتة تدل على حاله المنهار من شدة الإرهاق.
المشهد الثالث
تمتد يده دون ارادته وكأنها لا علاقة لها بجسده فتتجه الى غطاء رأسه لتسرقه وتخبئه خلف الشجرة فيصحو فجأة من نومه حتى يجد أنَّ غطاء رأسه مفقود، يبحث عنه في المكان بلا جدوى، لكنه يستمع إلى أصوات أقدام خلف الشجرة، ذلك يجعله يتلصص للنظر، وهو يمد عنقه خلفها يبحث عن الشخص، بعدها يسارع بالدخول ورائها، فيخرج هو نفسه وقد تغيرت هيأته وكأنه شخص آخر لشخصية أخرى بعد أن وضع الغطاء على رأسه وتتم مطاردته من قبل الشخصية الأولى وتستمر تلك المطاردة حول الشجرة بين الاثنين (نفس الممثل يؤدي كلا الشخصيتين في كل مره تنقلب إحداهما الى الأخرى بمجرد مروره من خلف الشجرة وارتدائه غطاء الرأس )
حتى نجد إحداهما في النهاية يمسك بالآخر وينتزع منه غطاء الرأس عنوه ويعود لنومه، لكن هذا لن يدوم بمجرد أن يغفو حتى تمتد اليد مرة أخرى لتخنق صاحبها ويحاول التخلص منها بصعوبة جعلتها تهرب من جسده لتنفصل عنه، ويشعر بنقصها الذي يقلقه أكثر عندما يراها وقد اختبأت في المكان وهو يطاردها من جهة إلى أخرى حتى يمسك بها بعد عناء طويل ليعيدها الى مكانها الصحيح…
ويسير إلى جوانب المكان مستوحشًا حاله فيقرر المشي الذي يتسارع شيئاً فشيئًا باتجاه الأمام (بشكل موضعي) حتى يصل إلى الركض السريع باتجاه مقدمة المسرح حينها يجد نفسد أمام مصد من جدار قبالة الجمهور في مقدمة المسرح، وهو محاط بأربعة جدران يحاول الخروج منها مما يضطره لتمزيق قميصه ليصنع منه حبلا للتسلق إلى أعلى المكان الذي أصبح كالزنزانة وفي الآخر ينفذ بصعوبة من فتحة كانت في مواجهته للجمهور ليخرج منها وكأنه يفتح باب (سلايد)
المشهد الرابع
يرتاب من وحشة المكان راكضًا بكل الاتجاهات بينما تدخل عليه مجموعه من الضفادع التي تملأ المكان تتقافز حوله حتى يسقط في وسط مقدمة المسرح وفي أثناء ذلك يدخل عليه ابنه الصبي، يحاول الأب احتضانه إلا أنه يتفاجأ برفض ابنه إياه؛ ليتحول الى ند وهو يحمل سكينًا وشوكه طعام ويبدأ بقص لحم أبيه ليأكل منه بالشوكة والسكين وهو يستغل سقوطه وانهياره على الأرض تم يمد كفه في صدر أبيه ليخرج من داخله شيئًا، فيأكله ثم يعاود الكرة بمد يده إلى فم أبيه، كذلك بينما الأب يتوسل لابنه بالعدول عن تمزيق جسده لكنه لا يأبه لرغبته ويستمر بتقطيع أبيه وأكله حتى يشبع إلا أن الأب يحاول الوقوف بصعوبة ثم يحتضن ابنه الذي يدفع به بكلتا يديه لينسحب إلى خارج المكان تاركا أبيه في المكان الموحش يتضور ألماً.
المشهد الخامس
بينما الرجل ينهار في وسط المكان تدخل مجموعه الأشباح التي تتحرك بآلية وكأنهم مكائن بشرية؛ لتملأ المسرح كل واحد منهم إنسان الي يتجمد في مكان ما من المسرح حتى يمتلئ بهم وكأنهم مجموعه من التماثيل الزجاجية التي تشير على الشخص بالتهديد بسلاح ما، ينهض الرجل من مكانه فيرى ابنه الذي يعود إليه مرة أخرى حرصًا على بقاء أبيه للاستفادة من لحمه لاحقًا، فيستنهض أبيه ويساعده بتكسير تلك التماثيل الزجاجية التي انتشرت بالمكان وملأته ويقومان بتحطيمها واحداً تلو الآخر بضربات قويه حتى تتهشم جميعها، ويقومان بدحرجة حطام تلك التماثيل في مكان واحد، فيعانق الأب ابنه، إلا أنَّ الابن يدفع أبيه ويخرج من المكان ليجعله يشعر بالخذلان مرة أخرى.
المشهد السادس
بينما يقف الرجل مرعوبًا مما يدور حوله من كوابيس تكاد أنْ تجعله يشعر بجنون لا حدَّ له، عند ذلك تدخل العارضة التي كان قد وضع قدميه عليها أثناء نومه في البداية أول عرض أحداث المسرحية.
يشعر بالنعاس ويقترب منها أكثر ليعود إلى نومه الذي كان عليه فتنزل النخلة العتيقة مرة أخرى فوقه ليحتضنها ويشعر بالاطمئنان، ويتكور جسده حولها ليعود لنومه الأول متقرفصًا كما كان في بداية العرض، وتنسحب النخلة إلى الأعلى فيفز من نومه وكأنه استيقظ من كابوس لا وجود له إلا بمخيلته…
Discussion about this post