بين الأرض والسّماء
بقلم الأديبة … هدى كريد
حانت العودة بعد أن استنزفت آخر رحيق واستأجلت الوداع يومين.
حطّت بي الطّائرة بـ”المنستير” المدينة الهادئة، البسيطة في كلّ شيء حتّى في إجراءات معانقة الوطن من جديد. وذبت في أحضان محبوبتي السّمراء “سوسة” مرتع الحرّية والعشق. رحل مهدي إلى “المغرب” وسحر العينين خبيء صدري. وبقيت لي زهرة مدائني أجوس فيها مملكة السّماء كلّما حاصرتني الأرض وضاقت بي مساربها. كلّما انخسفت رياحي في الأقبية أودعتها ترفي ونزقي. تهتدين بهذه المدينة في تيهكِ.
وكنت طيلة السّفرة الباريسيّة ذهابا وإيّابا أنشغل عن المسافرين ولا أكاد أراهم. بصري معلّق بك أيّتها السّماء. أراقبك بوله. منذ الصّغر كانت لي هواية غريبة، التّطلّع إليك، يحلو لي أن أبتني عوالم يراها قلبي ويعزّزها بصري. هذا جواد أسطوريّ يجرّ عربة ملكيّة، وهذان جيشان يتقاتلان، يحتدّ وطيس المعركة وتتردّد أصواتها داخلي. يمتدّ بصري إلى تلك الجنّة البيضاء على ضفاف البحيرة الزرقاء. وفي خضمّ تلك الرّؤى المختلطة، وجه تتغيّر ملامحه أحيانا ولا تغيب عنّي أبدا تلك النّظرة الحانية.
ربّاه!
قلبي مترع بالشّقوق ورعشة الحبّ المبتورة، تعودني الذّكرى بنزفها في شوارع سوسة الغارقة في الصّمت مع أولى ساعات الصّباح. منهكة جدّا من الرّحلة والذّكرى. أختار نفس الفندق الصّغير الذي كان شاهدا على الصّدق والفراق. ليلتها طرق بابي، تلاشت بقايا الرّماد فوق الجمر المتّقد. استسلمت لشفتيه الجائعتين. نسيت السّماء لحظتها، ابتسمت لنزق الذّكرى وطيف العاشق الجسور. تسلّلت يده بخفّة إلى حمّالة النّهدين الشّفيفة. تفّاحتان في مهبّ العراء. واليد تستعدّ للغزوة الأخيرة داخل الأحراش الوعرة. فجأة أزحتها بعنف عقلته الدّهشة. أزاح الأشواك العالقة بحلقه وتهدّج صوته المصدوم:
– ما بك حبيبتي؟
ردّ صوت داخلي بصلف:
– لست من طينة المومسات.
صفعني آخر:
– لا شيء يضاهي رعشة الحبّ.
حسمت المعركة وخرج يجرّ كبرياء الرّجولة الجارحة وتركني بلا رجعة.
من رواية اعترافات نيسابا
Discussion about this post