كوخ السعادة ….
بقلم الأديبة …شروق لطيف
كان هناك قصرا رائعا يملكه أحد الإقطاعيين الكبار كان كونتا ذو سطوة ونفوذ فكان يملك الأراضى فى كثير من البقاع ، وتحت يديه ثروة ضخمة وأملاكا عديدة جعلته منشغل الفكر بها ليل نهار ، وجعلت من طبيعته الحادة أرضا خصبة لزيادة جموده وحدة طبعه ، والتى يتعامل بها مع كل العمال اللذين يديرون شئون أعماله لكى يكون مُهابا من الجميع مطاعا من كل اللذين يشتغلون فى أراضيه فاتبع الغلظة سلوكا والشدة منهاجا
ولم يستطع الفصل بين حياته العملية والخاصة لأن الطبع لا يتجزأ، وبما انه كان متزوجا فقد تعامل مع زوجته بنفس هذا الطبع الفظ فكان شديد المراس يأمر وينهى ويتلذذ بطاعتها له والتى هى مجبرة عليها ليس إلا….فإن اطاعت فبالحرى يكون رضوخا لإتقاء شره وصوته الأجش الذى يكاد ان تهتز له ارجاء القصر اذا غضب او رفع صوته بشديد الصياح وعلى اتفه الأسباب …. ….
وبالرغم من انه حين تزوجها كانت فتاة تفوق القمر فى جمالها وكانت هادئة الطبع ، لكن فيما يبدو ان الطباع تتغير على حسب البيئة المحيطة فلقد أدت اخلاقه الحادة على مدار السنين لفقدان سلامها الداخلى رويدا رويدا ، وأصبحت اكثر عصبية عن ذى قبل لدرجة انها كانت تستغرب ما آلت إليه فتتوق الى طبيعتها القديمة ولكن الإناء الخزفى عندما تتصدع جوانبه يكون من الصعب إعادته الى حالته الأولى….
ربما يكون قد وفر لها كل سبل الحياة الكريمة والتى تتمناها كل فتاة ولكن يبدو أن الحياة على قدر ما تعطى انما تأخذ أضعافا …فكانت من داخلها لا تشعر بالسعادة حتى ولو بدت بمظهر تحسدها عليه الأخريات…
وفيما كانت تطل من شرفة قصرها ذات يوم وجدت البستانى الذى يهتم بحديقة القصر قد انتهى توا من عمله واتجه الى كوخه الصغير فى زاوية الحديقة ولما تتبعته بنظرها وجدت زوجته وهى سيدة فلاحة المنشأ بسيطة المظهر تجرى لاستقباله بحفاوة بالغة وكأنه يرجع من سفر بعيد وما أن رآها تهللت اساريره وبدأ الارتياح يعلو قسمات وجهه وكأنه لم يشقى طيلة النهار فى أعمال الزراعة …
وما أن رأته مقبلا الا وارتمت فى حضنه بمنتهى الاشتياق وكأنه العصفور الذى رجع الى عشه بعد سفر طويل فتحتفل بمقدمه …فتعجبت سيدة القصر عن هذا اللقاء الحار وتساءلت ما كنه هذه السعادة وكيف نشأت بالرغم من الفقر والكدح على لقمة العيش ؟!!
فتملكها الفضول لرؤية هذا الكوخ من الداخل وان تجلس مع زوجة البستانى لتتحقق من ما رأته من غريب سلوكيات لم تعهد بها فى علاقتها مع زوجها الكونت الكبير ..وفى اليوم التالى أخذت تراقب البستانى حتى نزل الى الحديقة منشغلا فى عمله كالمعتاد، ونزلت الى الحديقة و أخذت تتمشى فى جنباتها واقتربت من الكوخ اكثر فأكثر فوجدت مدفأته الصغيرة تخرج دخانا منها يدل على دفئ المكان
فلمحتها زوجة البستانى من وراء نافذتها والتى كانت واقفة وراءها تطهو طعاما رائحته الذكية ملأت ما حول الكوخ فخرجت وهى محرجة وتمتمت بصوت خافت : سيدتى هنا يا للنور يا للهنا
هل تتفضلين لدينا فتشرفين كوخنا المتواضع تفضلى سيدتى انه سيصبح عندنا بمثابة يوم عيد، فأتاحت دعوتها اتمام المهمة التى كانت تقصدها سيدة القصر بدون عناء، فتقدمت ونزلت درجتان لأنه كان منخفضا عن الارض قليلا و من اول وهلة انتابها شعور بالذهول مما رأت!!!
فالمكان بالرغم من بساطته الا ان كل شيئ فيه يوحى بالجمال وينم عن الرقة شديد النظام والترتيب ناصع النظافة فجلست على أريكه نظيفة وجدتها مريحة جدا لدرجة انها ممكن ان تجلب النعاس فى هذا الجو المريح للأعصاب، وفى مقابلها فراش وثير بجانب الحائط لكن بالرغم من بساطة أغطيته لكن يوحى بالدفء الذى يجلب النوم اللذيذ بدون كوابيس ولا ازعاج فكر …
ووجدت الموقد الصغير عليه وعاء تخرج منه رائحة من العدس اللذيذ وبجواره منضدة صغيرة مفروشة بمفرش الوانه تفتح الشهية وكانت قد حضرت المائدة لزوجها وعليها سلطانيتين كى تغرف فيهما العدس الساخن فى هذا اليوم القارص البرودة مع بعض الخضروات وبعض كسرات الخبز ….فغاصت بفكرها ألا تبدو شهية أكثر من الموائد الممتدة فى القصر فتمتمت حقا ان لقمة يابسة مع المحبة خير من ثور مسمن ومعه بغضة ….
فيا لسعادتهما وهما يكملان بعضهما البعض يأتى مرهقا من عمله فتحاول ان توفر له كل اسباب السعادة وتتفانى فى خدمته وتخفيف شقاءه وهو يأتى لها ببعض الفواكه المزروعة من يديه فى الحديقة فيتقاسماها سويا فتلذ لهما أكثر من الحلويات المصنوعة بأيدى أشهر فنانى الحلويات، ويقطف لها بعض الزهرات ويزين بها رأسها فكأن اكليل الزهور فاق التيجان المرصعة بأثمن الجواهر، ويفوح منه العطر فيشتمه عليها وينتشى قلبه من شدة ميله اليها فيكون أطيب وأكثر جاذبية لأنفاسه من زجاجات العطر غالية الأثمان …..
وتأملت برهة وقالت فى الواقع ما هى احتياجات الانسان الا مسكنا نظيفا دافئا بالحب والتفاهم وراحة البال مع كوب شاى دافئ فى الليالى قارصة البرودة يعطى نشوة اكثر من الكؤوس المترعة فى القصر حقا انه من كثر ماله كثرت همومه ….خرجت من الكوخ وهى تتمنى امتلاكه وهو الذى يعد بالفعل من املاكها لكنها فى الواقع لا تستطيع امتلاك ما يحويه من كنوز الحب والتفاهم والرضا والشكر والحنان الذى ينعم فيه أصحابه …فيتلذذون بطعم الحب ولا يرتضون بغيره بديلا…
وانطلقت من الكوخ غير آبهة بتوسلات زوجة البستانى باستبقاءها حتى تشرفها بتناول الشاى عندها وهى تؤكد لها نظافة الاكواب ان كانت تأنف منهم….
لكنها فى الواقع هربت مسرعة لأن عيناها قد اغرورقت بالدموع قبل ان تراها فى هذه الحالة، وما ان دخلت الى حجرتها المذهبة حتى ارتمت فى حضن سريرها الفخم واخذت تبكى وتبكى وتقول يااويلى انا المحرومة انى انا هى الفقيرة الحقيقية
بماذا اتميز عنهم بمظاهر كاذبة لا تنفع فى شيئ، فإنتفضت من عليه وهى تنظر اليه بكل ضغينة إذ تخيلته كمقبرة طابقة على أنفاسها فتمنت التحرر من كوابيسه التى تقض مضجعها ….ووقفت امام المرآة وانتزعت من حول جيدها عقد اللؤلؤ الذى يلتف كقيد حديدي يخنقها،فإنفرطت حباته ونزلت تطقطق على الأرض ككرات ثلج تنزل على لهيب نار
ثلج تنزل على لهيب نار يشتعل فى جوفها كى تطفئ غلتها، وماكان صوت كل حبة ترن الا وتوقظ معها الآلام التى تجرعتها من الفظاظة والجراح التى اثخنت نفسها من قلة الإطراء وجدب المشاعر الحانية، ورفعت رأسها إلى السماء معاتبة القدر وتحمله نتيجة الألم الذى تعيش فيه وتقول نعم اعطتيتنى كل شيئ وحرمتنى من أهم شيئ أريد تذوقه ولا استطيع شراءه أريد أن اسكر من سلاف ذلك الحب فقد ظهرت حبابه بلونه القانى أمام عينى فلن يعود لأى شراب آخر مذاقا فى فمى …
فسمعت صوت القدر ساخطا وقال :
عجبت من حالكم أيها البشر دائمى الشكوى والتذمر
ان اسكنتكم فى قصور تملونها
وان وهبتكم جواهرا تسخطون عليها
وتشتهون عيشة البسطاء وتستكثرون السعادة التى يخلقونها من حرمانهم بما تملكون انتم !!
ولكن الحقيقة أن السعادة الحقيقية تكمن فى الرضا والشعور بالإستكفاء بما هو موجود والاستغناء عن الناقص…
فما رأيك لو استبدلت اوضاعكم وانزلتك انت فى الكوخ وأصعدت زوجة البستانى وارتدت فساتينك من الخز والحرير وتلذذت بأطايب أطعمة قصرك وتحلت بجواهرك ونزلت تزهو كالطاووس مختالة بين الخدم مثل ماتصنعين وتشعرين بالصغر والضآلة أمامها وأنت فى الحاجة والفاقة وضيق ذات اليد ..هل لن تتبرمين وتقبلين بوضعك الجديد ساعتها لكن دون عودة الى وضعك الحالى ولك مطلق الحرية فى الإختيار…
فأطرقت بفكرها ساهمة وقالت :
حقا ان المعادلة صعبة جدااا
والاختيار صعب بين كفتى الميزان …
قال لها :
ارأيت ولو وضعتك مكانها لكنت ايضا تبرمت واشتهيت سكنى القصر ولو ليوم واحد
أنتم أيها البشر تختارون وعليكم تحمل نتيجة ما تشتهون….
ولكن لا ترجعوا ثانية علىّ للهم تلقون
أنتم فى الحقيقة مخيرون ولكن عندما لخطأ احتياركم تتداركون فلستم تجدون سوى قول
أننا مظلومون لأننا خلقنا مسيرون….
وعجبى…….
Discussion about this post