أسطورة ضائعة (نصٌّ سرديٌّ تعبيريٌّ)
*أمين جياد
الأناملُ السحريةُ حرَّكتْ أغصانَ الشجرةِ السامقةِ , لمْ تكنْ تدري إنَّ أوراقَها تحملُ كلٌّ منها قصةُ أعوامٍ لن تنتهي , ولمْ تكُ تدري إنَّ الضوءَ المنبعثَ منها يغطِّي البحارَ والصحارى وقممَ الجبالِ الملوَّنةِ، تبهرُ الأبصارَ , هكذا في لَمْحِ البصرِ إنفجرتِ الينابيعُ القريبةُ من الشجرةِ وتكسَّرتِ الغصونِ اليابسةِ التي عبثتْ بها الرياحُ لعشراتِ الأعوامِ , وفي لحظةٍ واحدةٍ , كأنَّها العمرَ كلَّهُ , سالتِ الحروفُ والكلماتُ , وأخذتْ مداها حتى وصلتِ السماءَ وتلقفتها الغيومُ المنتشرةُ عبرَ البصرِ , وكأنَّ يدَ ندَّافٍ وزَّعَها بأوتارِهِ الموسيقيةِ على قيثارةٍ بابليةٍ , في كلِّ مكانٍ , ومنَ الجذورِ الضخمةِ في أعماقِ الأرضِ , إنبعثتْ أصواتٌ ورعودٌ وعواصفٌ وبريقٌ , وخِلْتُ نفسي عاصفةً أجَّجَتّ هذه الجذورَ , حتَّى أنَّني سمعتُ أَزيزَ الرعدِ وزحزحةَ الغيومِ وأَنينَ الغابةِ , في لُجَجٍ تتكوَّرُ بين أصابعي , وأحجارَ الياقوتِ والزبرجدِ يلفُّني إلى القاعِ , هذه اللجَجُ دفعتني دفعاً إلى المجهولِ , ورأيتني أطيرُ بجناحيَّ اللؤلؤيينِ الكبيرينِ , على أُفقِ النهايةِ الورديةِ , وحينما نظرتُ إلى الشجرةِ كانتْ روحي كدخانٍ ينبعثُ كهيئةِ الطيرِ ويتوزَّعُ في الأرجاءِ الباهرةِ , حينها تساءلتِ : ما هذا الذي يمسكُني وأنا أطيرُ , هل هي العَظَمةُ التي ألقتني في مداراتها , وبقيتُ أدورُ ؟، ها هي الكلماتُ تتسابقُ غيماً , لتكملَ أسطورةَ الشجرةِ السحريةِ التي توزعتْ بَيْنَ ثنايا الرياحِ نجوماً , لتكتبَ الألقَ النابتَ بَيْنَ دمي , وكيفَ أسألُ هذا الذي يسحبُني إلى المجهولِ طالباً أنْ أضعَ أحجاريَ المقدَّسةَ على ناصيةِ الطريقِ التي أضاءتْ أقماري , هذه الطريقُ التي ضيَّعتْ قدمي وضيَّعتْ لهفتي المؤجلةَ , وكلٌّ في كلِّكَ يسعى إلى أنْ يهربَ للمجهولِ , وطفقتُ أسألُ : لماذا …لماذا … ؟ فأوقعني السؤالُ إلى دربٍ لا ينتهي , لماذا تركتَ الأمينَ وحيداً , لا زهرةً ترتجيهُ , ولا دمعةً تصطفيهُ ,وكلُّ أخوتي ينهضون , وكلُّ الشوارعِ ضيِّقةً بالأمينِ , أُخيطُ على جبهتي حلمَ طفلٍ عنيدٍ وشيخٍ جريحٍ ,
فللدمعِ سلوى , وللشهوةِ عندي رتاجَ الأحبِّةِ ,
فالكوْنُ في منتهاهُ ,وشأني مقامٌ , يصعدُ، يصعدُ، نحو هذي السماء ،ليسَ لي لُجَّةُ البحرِ , وليسَ لي شهبُ النجومِ , وليسَ لي عشقُ الملوكِ , وليس لي نظرةُ الصقرِ المجروحِ , وليسَ لي زلزلةُ الأرضِ , وليسَ لي وَجدُ المتصوِّفةِ , وليسَ لي دَفَّةُ السفينةِ , وليسَ لي صليبُ المسيحِ , وليسَ لي أجنحةُ البراقِ , وليسَ لي ترنيمةُ الأمِّ , وليسَ لي بُعدُ الكواكبِ , وليسَ لي زهرةُالنرجسِ وليسَ لي عطرُ التفاحِ , وليسَ لي كلامُ النملِ , وليسَ لي وردةُ الحلَّاجِ , وليسَ لي شجرةُ الجَنَّةِ وليسَ لي طيرُ سليمان الحكيمِ , وليسَ لي عشبةُ كلكامش , وليسَ لي قوَّةُ ذي القرنينِ , وليسَ لي جمالُ يوسفَ , وليسَ لي كلُّ هذا , فأنا مِنْ ليسَ على ليسَ في ليسَ إلى ليسَ وصرتُ المرآةَ الكبرى .