خيانة الذات بين قسوة الفقر وتحوّلات الروح
نصّ فلسفي — عدنان مهدي الطائي
تمهيد
بين الاعتياد والسقوط هناك لحظة فارقة في حياة الإنسان؛ لحظة يقف فيها على حافةٍ ضيّقة بين جوع الروح وجوع الجسد، بين أن يحافظ على ما تبقّى من كرامته، أو أن يمدّ يده نحو خيارٍ لم يكن يتخيّله يوماً. قال دوستويفسكي: “بكوا في أول الأمر ثم ألفوا وتعودوا؛ إن الإنسان يألف كل شيء… يا له من حقير.” لم يقصد حقارة الإنسان في أصل خلقته، بل هشاشته حين تطول معاناته، وقدرته العجيبة على التكيّف حتى مع السقوط، حتى يصبح القبح مألوفاً مع الزمن.
ولكن…
هل يصبح الإنسان حقيراً لأنه يتعوّد؟ أم لأن العالم يضعه في زاويةٍ مظلمة لا مفرّ منها؟ هناك نساءٌ أُجبرتهنّ الحاجة على بيع أجسادهنّ، ورجالٌ انحنوا للفساد كي يسدّوا جوع أطفالهم، وآخرون رموا ضمائرهم في سوق المساومات ليضمنوا لقمة أو حماية أو بقاءً في وظيفة. غير أنّ هؤلاء ليسوا خونةً لذواتهم؛ بل ضحايا عالمٍ خانهم قبل أن يمدّوا أيديهم إليه. فالخيانة ليست في الجسد، ولا في الفعل القبيح المفروض على جائع، ولا في ضعيفٍ انكسر تحت وطأة الحاجة. 1ذن ماهية الخيانة الحقيقية: الخيانة الحقيقية تُولد عندما يملك الإنسان القدرة على الرفض ويختار القبول، وعندما يستطيع الوقوف فيفضّل الزحف، وعندما يرى الحقيقة ثم يغمض عينيه طوعاً. هنا فقط يصبح الاعتياد سقوطاً، ويصبح السقوط خيانة. أمّا الذين دفعتهم الظروف إلى حافة الاختيار المستحيل، فهم لا يخونون؛ بل يحاولون النجاة بأي وسيلة، ولو كانت من ظلال الظلام نفسه.
الفقر… والضمير
الفقر لا يسلب الإنسان شرفه، بل الذي يسلبه هو مجتمعٌ يرى المحتاج ثم يدير ظهره؛ وحاكم يبني قوّته فوق جوع الفقراء؛ وغنيّ ينام على مائدةٍ مليئة فيظنّ أن العالم بأسره ممتلئ مثلها. إن الشرف الحقيقي ليس في الجسد، بل في الضمير. ومن فقد سبل الحياة لا يُحاسَب على ما اضطر إليه، بل يُحاسَب من تركه وحيداً في العراء.
خاتمة: وبين التعود والضرورة، يظلّ الإنسان يبحث عن بصيص كرامةٍ يحتمي به، حتى لو انطفأت كل الأنوار.





































