أيُ مسك الختام في صحب سيّد الأنام ﷺ رضى الله عنهم
الفصل الثاني
عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه
إن الله وضع الحقّ على لسان عمر يقول به .
للأمّة أن تنظر لهذا الرجل العملاق بفائق افتخار، وعظيم وقار، وينظر شبابها وشيبها إليه بشغف وانبهار ، إنه الرجل الذي يفوح شذاه كالعبير، إنه أمير المؤمنين القوي الأمين ، إنه المعلّم الذي ليس له بين أقرانه نظير أو مثيل ، المتواضع في قوة والقويّ في رحمة . إنه الرجل الذي كان إسلامه فتحاً ، وكانت هجرته نصراً ، وكانت إمارته رحمة وعدلاً، إنه الرجل الذي قدم للدنيا كافة قدوة لا تبلى على مرالزمان والأيام ، فسرّح الدنيا سراحاً جميلاً ، وساقها إلى الناس سوقاً كريماً . إنه فاروق الأمة الأوّاب عمر بن الخطاب.
اسمه عمر وكنيته أبو حفص ولقبه الفاروق .
نسبه : هو عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رباح بن عبد الله بن قرط ابن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك القرشيّ، يلتقي نسبة مع النبى في الجدّ السابع كعب بن لؤي من قبيلة عدنان العربية .
أمه: امرأة مخزوميّة واسمها حنتمة بنت هاشم بن المغيرة بن عبد الله بن عمربن مخزوم ابنة عم أبو جهل عمرو بن هشام .
اسلامه
اللهم! أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك: بـ عمر بن الخطاب أو بـ عمرو بن هشام
لقد صورت أم عبدالله بنت أبي خيثمة زوجة عامر بن ربيعة شدة عمر قبل إسلامه ، فقالت: إنا لنرحل إلى أرض الحبشة وقد ذهب عامر لبعض حاجته ، إذ أقبل عمر بن الخطاب وهو على شِركه حتّى وقف عليَّ ، وكنا نلقى منه البلاء أذى وشدةً ، فقال : أتنطلقون يا أم عبدالله؟ قالت : نعم ، والله لنخرجنَّ في أرض الله ، فقد آذيتمونا وقهرتمونا حتّى يجعل الله لنا فرجًا ، فقال : صحبكم الله ، قالت : ورأيت له رقة وحزنًا ، فلما عاد عامر أخبرته قائلة : لو رأيت عمر ورقته وحزنه علينا ، قال : أطمعتَ في إسلامه ؟ قلت: نعم ، فقال : لا يسلم عمر حتّى يسلم حمار الخطاب .
ولمّا أرادت قريش قتل رسول الله ﷺ وتشاوروا في أمر قتله وأيُّ رجلٍ سيقتله ، فانتدب عمر نفسه ، فحمل سيفه في يومٍ شديدِ الحرِّ، وفي وقت الهاجرة ، واتّجه لرسول الله ﷺ والرسول جالسٌ مع أصحابه، وفيهم أبو بكر الصديق، وعلي، وحمزة -رضي الله عنهم-، وبعض الصحابة الذين أقاموا مع رسول الله ولم يذهبوا إلى الحبشة. وقد ذُكر لعمر أنهم كانوا مُجتمعين في دار الأرقم في أسفل الصفا، وفي طريقه لقيه الصحابي نُعيم بن عبد الله النحام ، وكان مسلماً حينها، فاعترضه وسأله: ” إلى أين أنت ذاهب ” ؟ فأخبره أنه يريد قتل رسول الله ، فقد سبَّ آلهتهم ، وسفَّه دينهم ، فتصايح الرجلان ، وقال له : ” لبئس الممشى مشيت ياعمر”، وذكّره بقوة بني عبد مناف وأنهم لن يتركوه ، فسأله عمر إن كان قد أسلم ليبدأ بقتله. فلما رأى نعيم أنه لن ينتهي عن هدفه في قتل رسول الله ﷺ صرفه عن ذلك بإخباره أن أخته وابن عمه زوجها قد أسلموا توجّه عمر بن الخطاب لبيتِ أُخته متذمراً وكانت أخته فاطمة قد أسلمت هي وزوجها سعيد ، وكان الصحابي خباب بن الأرت يعلّمهم القرآن ، فلما وصل عمر ، سمع خباب يقرأ القرآن لفاطمة وزوجها سعيد- رضي الله عنهم- ( سورة طه) ، فلما دخل عليهم اختبأ خبّاب. فسألهم عمرعن الصوت الذي سمعه ، فأخبروه أنه مجرد حديثٍ بينهما، فقال عمر: ” لعلكما قد صبوتما “، فقال له سعيد: ” أرأيت يا عمر إن كان الحق في غير دينك “؟ فقام عمر يريد ضربه ، فمنعته فاطمة ، فضربها على وجهها ، فردّت عليه وهي غضبى بقولها: “ياعمر إن كان الحقّ في غير دينك”، فلمّا يئس منهم عمر، طلب الكتاب الذي كانوا يقرؤون به ، فلم تُعطه أخته الكتاب إلا إذا تطهّر، فاستجاب لها وتطهّر، وبدأ بالقراءة فتعجّب عمر من حُسن الكلام الذي قرأه ، وحينها خرج خبّاب ، وأخبره أنّ رسول الله ﷺ قد دعا له بالإسلام .
قرأ عمر الآيات فانشرح صدره ، فسأل خباب عن مكان النبي ﷺ حتّى يلقاه ويُشهر إسلامه ، فأخبره خبّاب أنه في دارالأرقم بن أبي الأرقم فتوجّه عمر وطرق الباب ، ففزع الصحابة وخافوا حينما سمعوا صوت عمر، إلا أن حمزة طمأنهم ، وقال لهم: “إن يرد الله به خيراً يُسلم ، وإن يُرد غير ذلك يكن قتله علينا هيناً”، فأدخلاه على رسول الله ﷺ فنهض رسول الله وأمرهم بتركه ، وسأله عن سبب مجيئه ، فأخبره عمرحينها أنه يُريد الدخول في الإسلام ، فكبّر النبي ﷺ فَعلِم من في البيت بإسلامه ، ففرحوا بأنّهم صاروا أكثر منعةً وقوةً مع إسلام حمزة وعمر- رضي الله عنهم .
قَالَ عُمَرُ: خَرَجْتُ أَتَعَرَّضُ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَبْلَ أَنْ أُسْلِم ، فَوَجَدْتُهُ قَدْ سَبَقَنِي إِلَى الْمَسْجِدِ ، فَقُمْتُ خَلْفَه ، فَاسْتَفْتَحَ سُورَةَ الْحَاقَّةِ ، فَجَعَلْتُ أَعْجَبُ مِنْ تَأْلِيفِ الْقُرْآنِ فَقُلْتُ : هَذَا وَاللهِ شَاعِرٌ كَمَا قَالَتْ قُرَيْشٌ ، فَقَرَأَ : ( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَّا تُؤْمِنُونَ )، فقُلْتُ : كَاهِنٌ ، فَقَرَأ : ( وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِّنْ رَّبِّ الْعَالَمِينَ * ) إِلَى آخِرِ سُورَةَ الْحَاقَّةِ ، قَالَ عمررضي الله عنه : فَوَقَعَ الْإِسْلامُ فِي قَلْبِي .
القرآن يتنزل موافقا لقول عمر ورأيه :
قَالَ ﷺ لقد كان فيمن كان قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي منهم أحد فإنه عمر .
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال عمر رضي الله عنه ( وافقت ربي في أربع : قلت : يا رسول الله لو صلينا خلف المقام ، فأنزل الله ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ) . وقلت : يا رسول الله لو اتخذت على نسائك حجابا ، فإنه يدخل عليك البر والفاجر، فأنزل الله تعالى ( وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ) وقلت لأزواج النبي لتنتهن أو ليبدلنه الله سبحانه أزواجا خيرا منكن ، فأنزل الله تعالى ( عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن ) ، ونزلت ( ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ) إلى قوله تعالى : ( ثم أنشأناه خلقا آخر . فقلت : فتبارك الله أحسن الخالقين ، فنزلت كما هي ( فتبارك الله أحسن الخالقين ) .
آيات الحجاب
دعا رسول ﷺ القوم عند زواجه من السيدة زينب بنت جحش ، وجلس منهم مجموعة بعد أن تناولوا الطعام ليتحدّثوا، فقام الرسول فلم يقوموا، فخرج الرسول فلم يخرجوا ، الله فنزل قول الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَاسَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً ) الأحزاب 53
وعنْ أمنا عَائِشَةَ رضي الله عنها ، أَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ ﷺ كُنَّ يَخْرُجْنَ بِاللَّيْلِ إِذَا تَبَرَّزْنَ ، فَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ لِلنَّبِيِّ ﷺ احْجُبْ نِسَاءَكَ ، فَلَمْ يفعل ، فَخَرَجَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ زَوْجُ النَّبِيِّ لَيْلَةً مِنْ اللَّيَالِي عِشَاءً ، وَكَانَتْ امْرَأَةً طَوِيلَةً فعرفها القوم ، فنزلت: ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً ) الأحزاب 59
قال تعالى : ( وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) النور31
و قال تعالى: وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) النور60
أسري بدر:
أسر المسلمون في غزوة بدر سبعين أسيرًا ، ولم ينزل تشريعٌ يوضح أمر التعامل معهم ، فاستشار النبي ﷺ صحابته في أمر الأسرى ، فقال أبو بكر الصديق : “يا رسول الله ، هؤلاء بنو العمّ والعشيرة والإخوان ، وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية ، فيكون ما أخذناه قوة لنا على الكفار، وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عضدًا”. فلقد كان يغلب على رأي أبي بكر جانب الرحمة ، فقد وصفُه النبي ﷺ قائلا: “أَرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ”. وقال عمر : ” والله ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تمكِّنني من فلان – قريبًا له – فأضرب عنقه ، وتمكن عليًّا من عقيل بن أبي طالب – أخيه – فيضرب عنقه ، وتمكن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه ، حتّى يعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين “. وهؤلاء صناديد قريش وأئمتهم . فقوة الدين أعظم من قوة الدم ، فكان رأي عمر شديد الحسم ؛ أن يقتل كلٌّ قريب قريبه من الأسرى حتّى يُظهِركل مسلم حُبَّه لله ، وأنه ليس في قلبه ولاء لأيِّ مشرك وإن كان أقرب الناس إليه . وفي الحديث: “وَأَشَدُّهَا – أي الأمة – فِي أَمْرِ اللَّهِ عُمَرُ”.
يقول عمر: “فهوى رسول الله ﷺ ما قال أبو بكر، ولم يهوَ ما قلتُ ، وأخذ منهم الفداء” فلما كان من الغد ، يقول عمر: “فغدوتُ إلى رسول الله وأبي بكر وهما يبكيان ، فقلت : يا رسول الله ، أخبرني ماذا يبكيك أنت وصاحبك ، فإن وجدتُ بكاءً بكيت ، وإن لم أجد تباكيت لبكائكما”. وأنزل الله قوله تعالى: )مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ (أي : ( يكثر القتل ) تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا ) أي: أخذ الفدية ( والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم ) الانفال67.
ـ واستشار ﷺ الصحابة في الخروج إلى بدر فأشار عمر بالخروج فنزلت : ( كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقّ وإن فريقا من المؤمنين لكارهون ). واستشار الصحابة في قصة الإفك فقال عمر: من زوجكها يا رسول الله قال : الله ، قال : أفتظن أن ربك دلس عليك فيها سبحانك هذا بهتان عظيم . فنزلت كما قالها . أخرج ابن أبي حاتم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن يهوديا قال لعمر إن جبريل الذي يذكره صاحبكم عدو لنا ، فقال عمر: ( من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين ) فنزلت آية الاستئذان في الدخول : وذلك أن غلامه دخل عليه وكان عمر نائماً فقال : اللهم حرم الدخول فنزلت آية الاستئذان ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (النور:58 – 59 ) .
كراهته لأهل النفاق
أشار عمر على النبي ﷺ بأن لا يصلّ على عبد الله بن أبي بن سلول المنافق ولما هَمّ النبي بالصلاة عليه نزل قوله تعالى : ( وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا ولا تقم على قبره ). وكذلك يوم اختصم إلى النبي الكريم ﷺ رجلان فقضى لأحدهما ، فقال الذي قضي عليه لصاحبه هلم إلى عمر ليقضي بيننا ، فأتيا عمر فأخبر بقصتهما فأخرج سيفه ليضرب عنق الذي طلب الاحتكام إليه ، فنزلت آية من كتاب الله توافق ذلك ، قال تعالى : ( فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ).
ومما نزل من القرآن بشأن عُمر، روى الواحدي في “أسباب النزول” عن قوله تعالى : ( “قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ”). الجاثية “قال ابن عباس : يريد عمر بن الخطاب خاصة ، وأراد بالذين لا يرجون أيام الله عبد الله بن أُبي بن سلول ، وذلك أنهم نزلوا في غزاة بني المصطلق على بئر يقال لها المريسيع ، فأرسل عبد الله بن أُبي بن سلول غلامه ليستقي الماء ، فأبطأ عليه فلما أتاه قال له : ما حبسك؟ قال : غلام عمر قعد على قف البئر فما ترك أحدًا يستقي حتّى ملأ قِرَبَ النبي ﷺ وقِرَبَ أبي بكر وملأ لعمر ، فقال عبد الله بن أُبي بن سلول : ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قيل : سَمِّنْ كلبَك يأكلْك ، فبلغ قولُه عمرَ رضي الله عنه فاشتمل بسيفه يريد التوجه إليه ، فأنزل الله تعالى الآية “قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ”.
ـ وكان النبي ﷺ يكثرمن الاستغفار للمنافقين : قال عمر: سواء عليهم فأنزل الله : “سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِين “.
آيات تحريم الخمر
لما نزلت آية (البقرة 219 ) ( يسئلونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير و منافع للناس ).
فقُرئت على عمر فقال: اللهم بيِّن لنا في الخمر بيان شفاء فنزلت آية النساء (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ). فكان منادي رسول الله ﷺ إذا أقام الصلاة نادى : أن لا يقربنّ الصلاة سكران . ، فقرئت علي عمر، فقال : اللهم بيِّن لنا في الخمر بيان شفاء فنزلت آية المائدة ( يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون ) إلى قوله تعالى ( فهل أنتم منتهون ) قال عمر : انتهينا انتهينا .
أرجى آية عند عمر رضي الله عنه أنه قال : « قرأتُ القرآن من أوّله إلى آخره فلم أَرَ فيه آية أرجى وأحسن من قوله تعالى: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ}[غافر: 3] ، قَدَّم غفران الذّنوب على قبول التوبة ، وفي هذا إشارة للمؤمنين ».
وَرُوِيَ « أنّ رجلًا من أهل الشام ذا بأس وكان يُوفَد على عمر لبأْسه ، وأنّ عمر فقَدَه فسأل عنه ، فقيل له : تَتَايَع في هذا الشّراب ، فدعا كاتبه فقال : اكتُبْ : من عمر بن الخطاب إلى فلان ، سلام عليك ، فإني أحمدُ إليك اللهَ الذي لا إله إلا هو {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} ، ثم دعا ودَعَوا له أن يتوب اللهَ عليه وأمّنَ مَن عنده ، فلما أتت الصحيفةُ الرجلَ جعل يقرؤها ويقول : قد وعدني ربي أن يغفرلي ، قد حذّرني عقابَه ، فلم يزل يردّدها على نفسه ، ثم بكى ، ثم نزَع فأحسن النّزع ، فلما بلغ عمرَأمرُه قال : هكذا فاصنعوا ، إذا رأيتم أخًا لكم زَلَّ زلّة فسدِّدوه ، ووفِّقوه ، وادعُوا اللهَ أن يتوب عليه ، ولا تكونوا عونًا للشيطان عليه ».
قوله تعالى : ( ثلّة من الأولين وقليل من الآخرين ).
– قال عروة بن رويم : لما أنزل الله تعالى) : ثلة من الأولين وقليل من الآخرين ( بكى عمر وقال : يا رسول الله ، آمنا بك وصدقناك ، ومع هذا كله من ينجو منا قليل ، فأنزل الله تعالى) : ثلة من الأولين و ثلة من الآخرين( . فدعا رسول الله ﷺ عمرفقال : ” يا عمر بن الخطاب قد أنزل الله فيما قلت ، فجعل ثلة من الأولين وثلة من الآخرين ” فقال عمر: رضينا عن ربنا ونصدق نبينا ، فقال رسول الله ﷺ : ” من آدم إلينا ثلّة ، ومنّي إلى يوم القيامة ثلّة ، ولا يستتمها إلا سودان من رعاة الإبل ممن قال لا إله إلا الله ” .
موقف عمر من صلح الحديبية
تمّ التفاوض بين النبيّ ﷺ ومفاوض قريش سهيل بن عمرو؛ لعَقد هذا الصلح بعدما أرسلت قريش رُسُلها لصَدّ النبي ﷺ عن دخول البيت الحرام ، وكانت بنود الصلح بين الرسول وقريش : أن يعود ﷺ وأصحابه ولا يدخل مكّة هذا العام ، وإن أراد دخلَها العام المقبل . وأن تُعقَد هُدنة بين المسلمين وقريش مدّة عشر سنوات لوَضع الحرب ، وأنّ من أراد أن يؤمن فله ذلك ، ومن أراد أن ينضمّ إلى قريش فله ذلك ، ويصبح ذلك الفرد أوالقبيلة حليفا للفريق ، وأيّ اعتداءٍ يتعرّض له يُعتبَراعتداءً على الفريق كلّه وأنّ من ذهب إلى محمد من حلف قريش من غيرإذنهم فارّاً منهم فإنّه يُعاد إليهم ، ومن ذهب إلى قريش من غير إذن محمد فارّاً منه فإنّه لا يعود إليه. فاستدعى النبي ﷺ عليّاً بن أبي طالب رضي الله عنه ؛ ليكتبَ عقد الصلح فقال اكتُبْ : (بِسْمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ) ، فقال سُهيلُ بنُ عمرٍو: لا نعرِفُ الرَّحمنَ الرَّحيمَ ،ا كتُبْ باسمِك اللَّهمَّ ، فقال ﷺ لِعليٍّ : ( اكتُبْ هذا ما صالَح عليه محمَّدٌ رسولُ اللهِ فاعترض سُهيلُ بنُ عمرٍو قائلا : لو نعلَمُ أنَّك رسولُ اللهِ لاتَّبَعْناك ولم نُكذِّبْك اكتُبْ بنَسَبِك مِن أبيك ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ لِعليٍّ : (اكتُبْ محمَّدُ بنُ عبدِ اللهِ ) فكتَب : مَن أتى منكم ردَدْناه عليكم ومَن أتى منَّا ترَكْناه عليكم ، فقالوا: يا رسولَ اللهِ نُعطيهم هذا؟ فقال رسولُ اللهِ ﷺ : (مَن أتاهم منَّا فأبعَده الله ، ومَن أتانا منهم فردَدْناه جعَل اللهُ له فرَجًا ومخرَجًا ويشاء الله أن يبتلي المسلمين ، ويظهرغضبهم لله ، وحميتهم لدينه ، ويمتحنهم في وفائهم بعهدهم ، فبينما هم يعقدون الصلح يهرب إليهم أبوجندل بن سهيل بن عمرو، وقد عذب في الله عذابًا شديدًا ، فأراد النبي ﷺ من أبيه أن يجيزه له فرفض وأمام هذا التحدي لمشاعر المسلمين ، لم يملك النبي ﷺ إلا الثبات على الوفاء بالعهد ، ويبشر أبا جندل رضي الله عنه بالفرج من الله ، فقال له ( يا أبا جندل اصبر واحتسب ، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا ، إنا عقدنا بيننا وبين القوم صلحا ، فأعطيناهم على ذلك وأعطونا عليه ، وإنا لن نغدر بهم ).
فيقول عمر: فَأَتَيْتُ النَبِيَّ ﷺ فَقُلْتُ : أَلَسْتَ نَبِيَّ اللَّهِ حَقًّا ؟ قَال : “بَلَى”. قُلْتُ : أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ؟ قَالَ : “بَلَى” قُلْتُ : فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا. قَالَ : “إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ وَلَسْتُ أَعْصِيهِ ، وَهُوَ نَاصِرِي قُلْتُ : أَوَلَيْسَ كُنْتَ تُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي الْبَيْتَ فَنَطُوفُ بِهِ ؟ قَالَ : “بَلَى ، أأَخْبَرْتُكَ أَنَّا نَأْتِيهِ الْعَامَ؟” قَالَ : قُلْتُ : لا. قَالَ : “فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ”. قَالَ عمر : فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ، فَقُلْتُ : يَا أَبَا بَكْرٍ، أَلَيْسَ هَذَا نَبِيَّ اللَّهِ حَقًّا ؟ قَالَ : بَلَى. قُلْتُ : أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ؟ قَالَ : بَلَى . قُلْتُ : فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا ؟ قَالَ : أَيُّهَا الرَّجُل ، إِنَّهُ لَرَسُولُ اللَّهِ وَلَيْسَ يَعْصِي رَبَّهُ ، وَهُوَ نَاصِرُهُ ، فَاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِهِ ، فَوَاللَّهِ إِنَّهُ عَلَى الحق .
مبايعته لأبي بكر الصديق يوم السقيفة
عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : ( لما قبض رسول الله ﷺ قالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير قال : فأتاهم عمر رضي الله عنه فقال : يا معشر الأنصار، ألستم تعلمون أن رسول الله ﷺ قد أمرأبا بكريؤم الناس فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكررضي الله عنه فقالت الأنصار : نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر ).
الأحاديث الصحيحة في خلافة عمر:
حديث أبي ذر رضي الله عنه قال “إني لشاهد عند رسول الله ﷺ في حلقة ، وفي يده حصى ، فسبحن في يده ، وفينا أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ، فسمع تسبيحهن من في الحلقة ، ثم دفعهن النبي ﷺ إلى أبي بكر فسمعنا تسبيحهن مع أبي بكر، وسمع تسبيحهن من في الحلقة ، ثم دفعهن النبي إلى عمر فسمعنا تسبيحهن في يده و سمع تسبيحهن من في الحلقة ، ثم دفعهن النبي ﷺ إلى عثمان بن عفان بن عفان فسمعنا تسبيحهن في يده ، ثم دفعهن إلينا فلم يسمع تسبيحهن مع أحد منا .
– ما ثبت من قوله ﷺ: « لو كنت مستخلفًا ، لاستخلفت أبا بكر أو عمر».
– وروي أن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول: « الخليفة فيكم بعدي أبو بكر ثم عمر” » .
– قوله ﷺ: « الخلافة ثلاثون عامًا ، ثم يكون بعد ذلك الملك ». فالثلاثون سنة هي خلافة أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب والحسن بن علي رضي الله عنهم .
قال ابن كثير رحمه الله : “وإنما كملت الثلاثون بخلافة الحسن بن علي ، فإنه نزل عن الخلافة لمعاوية في ربيع الأول من سنة إحدى وأربعين ، وذلك كمال ثلاثين من موت النبي ﷺ ، فإنه توفي في ربيع الأول سنة أحدى عشرة من الهجرة. وهذا من دلائل نبوته ﷺ .
– حديث أبي بكرة رضي الله عنه : أن النبي ﷺ قال ذات يوم : « من رأى منكم رؤيا؟» فقال رجل : ” أنا رأيت كأن ميزانًا نزل من السماء ، فوزنت أنت وأبو بكر فرجحت أنت بأبي بكر، ووزن عمر وأبو بكر فرجح أبو بكر، ووزن عمر وعثمان فرجح عمر، ثم رفع الميزان. فرأينا الكراهة في وجه رسول الله ﷺ.
قال أهل العلم : قوله في الحديث : فرأينا الكراهة في وجه رسول الله ﷺ ذلك لما علم أن تأويل رفع الميزان انحطاط رتبة الأمور، وظهور الفتن بعد خلافة عمر رضي الله عنه .
وقد ذكر ابن العربي رحمه الله هذا الأثر والذي قبله في الاستدلال على إشارة النبي ﷺ لخلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما .
ـ قالوا عن عمر :
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول ﷺ وسلم ضرب صدرعمر بيده حين أسلم ثلاث مرات وهو يقول اللهم أخرج ما في صدرعمرمن غل وأبدله إيماناً . يقول ذلك ثلاثا.
وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال : ” إيهٍ يا ابنَ الخطابِ ! والذي نَفْسِي بيدِهِ ما لقِيَكَ الشيطانُ قطُّ سالكًا فجًّا ؛ إلَّا سلَكَ فجًّا غيْرَ فَجِّكَ “.
وَتَرَحَّمَ عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه علَى عُمَرَ، وَقالَ : ” ما خَلَّفْتَ أَحَدًا أَحَبَّ إلَيَّ أَنْ أَلْقَى اللَّهَ بمِثْلِ عَمَلِهِ مِنْكَ ، وَأْيم اللهِ إنْ كُنْتُ لأَظُنُّ أَنْ يَجْعَلَكَ اللَّهُ مع صَاحِبَيْكَ ، َذَاكَ َأنِّي كُنْتُ أَسْمَعُ رَسولَ اللهِ ﷺ يقولُ : جِئْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَدَخَلْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَخَرَجْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، فإنْ كُنْتُ لأَرْجُو، أَوْ لأَظُنُّ ، أَنْ يَجْعَلَكَ اللَّهُ معهُمَا . كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه إذا ذكر له عمر بكي حتّى تبتلّ الحصى من دموعه ثمّ يقول : إن عمر كان حصنًا للإسلام يدخلون فيه ولا يخرجون منه ، فلما مات انثلم الحصن فالناس يخرجون من الإسلام .
عن الأحنف بن قيس : قال : ” لمّا طعن عمر أمر صهيبًا أن يصلّي بالناس ، ويطعمهم ثلاثة أيام حتّى يجتمعوا على رجل ، فلما وضعت الموائد كفّ الناس عن الطعام ، فقال العباس : أيها الناس إن رسول الله ﷺ مات فأكلنا بعده ، وشربنا ومات أبو بكررضي الله عنه فأكلنا ، وإنه لا بد للناس من الأكل والشرب ، فمد يده ياكل فأكل الناس .
وعن أبي ذرّ الغفاري رضي الله عنه قال : سمِعْتُ رسولَ اللهِ ﷺ يقول : ” إنَّ اللهَ وضَعَ الحقَّ على لسانِ عُمَرَ
وأما أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه كان يقول قبل أن يقتل عمر: ” إن مات عمر رق الإسلام ، ما أحب أن لي ما تطلع عليه الشمس أو تغرب وأن أبقى بعد عمر، فقيل له : لم؟ قال : سترون ما أقول إن بقيتم ، وأما هو فإن وليّ وال بعد فأخذهم بما كان عمر يأخذهم به لم يطع له الناس بذلك ولم يحملوه ، وإن ضعف عنهم قتلوه “.
قال عبد الله بن مسعود :رضي الله عنه “إن إسلام عمر كان فتحا، وإن هجرته كانت نصرا، وإن إمارته كانت رحمة ، ولقد كنا ما نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمرا ، فلما أسلم قاتل قريشا حتّى صلّى عند الكعبة ، وصلينا معه “.
ومما نزل في أبي بكر وعمر قول الله تعالى : ( إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ). أما عمر فجاء بنصف ماله و دفعه للنبي ﷺ فقال له كم تركت لأهلك يا عمر؟ قال : نصف مالي . وجاء أبوبكر بماله كله ودفعه للنبي ، فقال له النبي ﷺ ( كم تركت لأهلك يا أبا بكر؟ فقال : تركت لهم الله ورسوله ).
كلماته يرثى بها النبى ﷺ
قيل أن عمر رضى الله عنه قال وهو ينظر الى جثمان النبي ﷺ:
ليس البكاء وأن أطيل بمقنعى الخطب أعظم قيمة من أدمعى
تالله ما جار الزمان ولا اعتدى بأجل من ذاك المصاب وأوجع
مات النبى فأظلمت كلّ الدنى والحزن حلّ بكلّ قلب موجع
ما زال بالقرآن فينا هاديا يهدى الأنام بنوره المتشعشع
ثم قال : بأبي أنت وأمي يارسول الله ، لقد بلغ من فضيلتك عند الله أن جعل طاعتك طاعته فقال : من يطع الرسول فقد أطاع الله .
– بأبي أنت وأمي يارسول الله ، لقد بلغ من فضيلتك عند الله أن أخبرك بالعفو قبل أن يعلمك بالذنب فقال : عفا الله عنك لم أذنت لهم .
– بأبي أنت وأمي يارسول الله ، لئن كان موسى بن عمران أعطاه الله حجرا يتفجّر منه الأنهار، فما ذاك بأعجب من أصابعك حين نبع منها الماء .
– بأبي أنت وأمي يارسول الله ، لئن كان سليمان بن داود أعطاه الله الريح ، غدوها شهر ورواحها شهر، فما ذاك بأعجب من البراق حين سرت عليه إلى السماء ، ثم صلّيت الصبح من ليلتك بالأبطح . صلى الله تعالى عليك .
– بأبي أنت وأمي يارسول الله ، لئن كان عيسى بن مريم أعطاه الله تعالى إحياء الموتى ، فما ذاك بأعجب من الشاة المسمومة حين كلمتك فقالت: لا تأكلني فإني مسمومة ! صلّى الله تعالى عليك .
– بأبي أنت وأمي يارسول الله ، لقد دعا نوح على قومه فقال : ( رب لاتذر على الأرض من الكافرين ديارا ) ولو دعوت علينا لهلكنا ، فلقد وطئ ظهرك وأدمي وجهك وكسرت رباعيتك ، فأبيت أن تقول إلا خيرا ، وقلت : اللهم اغفر لقومي فإنهم لايعلمون .
– بأبي أنت وأمي يارسول الله ، لقد اتبعك في قلة سنينك وقصرعمرك ما لم يتبع نوحا في كثرة وطول عمره ، فلقد آمن بك الكثير وما آمن معه إلا قليل .
– – بأبي أنت وأمي يارسول الله ، لو لم تجالس إلا الأكفاء ما جالستنا ، ولو لم تنكح إلّا الأكفاء مانكحت إلينا ، ولو لم تواكل إلا الأكفاء ما واكلتنا . لبست الصوف وركبت الحمار ووضعت طعامك بالأرض ، تواضعا منك . صلّى الله تعالى عليك .
– بأبي أنت وأمي يارسول الله ، لقد كنت تخطب على جذع فلما كثرالناس جعلوا لك منبرا فحنّ الجذع إليك وسمعنا أنينه ، وأمتك أحق بالحنين إليك .صلى الله تعالى عليك .
خطبة عمر عند توليه الخلافة
وقف عمر رضي الله عنه يقول : ( بلغني أن الناس خافوا شدّتي وهابوا غلظتي ، وقالوا: لقد اشتدّ عمر ورسول الله بين أظهرنا ، واشتدّ علينا و أبو بكر والينا دونه ، فكيف وقد صارت الأمور إليه ؟! ألا فاعلموا أيها الناس ! أن هذه الشدّة قد أضعفت -أي: تضاعفت- ولكنها إنما تكون على أهل الظلم والتعدي على المسلمين ، أما أهل السلامة والدين والقصد فأنا ألين إليهم من بعضهم لبعض ، ولست أدع أحداً يظلم أحداً أو يعتدي عليه ، حتى أضع خده على الأرض وأضع قدمي على خده الآخر؛ حتى يذعن للحق ، وإني بعد شدتي تلك لأضع خدّي أنا على الأرض لأهل الكفاف وأهل العفاف.
أيها الناس! إن لكم عليَّ خصالاً أذكرها لكم ، فخذوني بها ، لكم عليَّ أن لا أجتبي شيئاً من خراجكم ومما أفاء الله عليكم إلا من وجهه ، ولكم عليَّ إن وقع في يدي أن لا يخرج إلا بحقه ، ولكم عليَّ أن أزيد عطاياكم وأرزاقكم إن شاء الله تعالى ، ولكم عليَّ ألا ألقيكم في التهلكة ، ولكم عليَّ أن أسد ثغوركم إن شاء الله تعالى ، ولكم عليَّ إن غبتم في البعوث – أي: المعارك – فأنا أبو العيال حتى ترجعوا إليهم ، فاتقوا الله وأعينوني على أنفسكم بكفها عني ، وأعينوني على نفسي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإحضار النصيحة فيما ولاني الله من أموركم ).
ومن صور عدله
قال :”لو أن جملا أو قال شاة أو قال حملا ، هلك بشط الفرات ، لخشيت أن يسألني الله عنه” كان رضي الله عنه مضرب المثل في العدالة والرحمة ، إذا عين والياً على عمل أعطاه كتاباً ، قال فيه : ” خذ عهدك وانصرف إلى عملك واعلم أنك مصروف رأس سنتك ، وأنك تصير إلى أربع خلال ، فإن وجدناك أميناً ضعيفاً ، استبدلناك لضعفك وسلمتك من عقوبتنا أمانتك . وإن وجدناك خائناً قوياً ، استهنا بقوتك ، وأوجعنا ظهرك ، وأحسنا أدبك .، وإن جمعت الجرمين ، (الضعف والخيانة )، جمعنا عليك المضرتين (العزل والتأديب) ، وإن وجدناك أميناً قوياً زدناك في عملك ، ورفعنا لك ذكرك ، وأوطئنا لك عقبك” .أخذ هذا الخليفة العملاق هذا المقياس الدقيق من قوله تعالى: { قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَمَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ } القصص.
روي الطبري أن عمر رضي الله عنه خطب الناس يوم الجمعة فقال : اللهم إني أشهدك على أمراء الأمصار، إني إنما بعثتهم ليعلموا الناس دينهم وسنة نبيهم ، وأن يقسموا فيهم فيئهم ، وأن يعدلوا ، فإن أشكل عليهم شيء رفعوه إلي. فوالذي نفس عمر بيده لأقتصن منه ،
فوثب عمرو بن العاص رضي الله عنه ، فقال : يا أمير المؤمنين أرأيتك إن كان رجل من أمراء المسلمين على رعيته فأدّب بعض رعيته ، إنك لتقصٌه منه ؟ قال : إي والذي نفس عمر بيده إذا لأقصنه منه ، وقد رأيت رسول الله ﷺ يقصّ من نفسه .
وكان رضي الله عنه إذا استعمل عاملا على إقليم خرج معه يشيعه ويوصيه فيقول : إنّي لم أستعملكم على أشعارهم ولا على أبشارهم ، وإنما استعملتكم عليهم لتقيموا بهم الصلاة ، وتقضوا بينهم بالحق ، وتقسموا بالعدل ، وإني لم أسلطكم على أبشارهم ولا أشعارهم ، فلا تجلدوا ظهورهم فتذلوهم ، ولا تأخذوا أموالهم فتفتنوهم ، ولا تغفلوا عنهم فتحرموهم.
عمر و جَبَلَة بن الأَيْهَم
أسْلم جَبَلَة بن الأَيْهَم أ حد مُلوك بني غَسَّان واسْتَقْبَلَهُ عمر ورَحَّبَ به وفي أثناء طوافِهِ حول البيت ، داسَ بَدَوِيٌّ دون قصد طرَفَ إزاره فانْخَلَع إزارُهُ فَغَضِبَ والْتَفَتَ نحو هذا البدَوِيّ من قبيلة فزارَة وضربه على أنْفِهِ ضَرْبةً هَشَّمَتْ أنْفَهُ فَوْراً ، فاشْتكى هذا البَدَوِيّ لِعُمَر بن الخطاب لما فَعَلَهُ به جَبَلَة بن الأَيْهَم ، فاسْتَدْعاه سيّدنا عمر وقال له : لا بدّ من إرْضاء الفَتى ، مازال ظِفْرُكَ عالِقاً بِدِمائِهِ ، أوْ يُهْشَمَنَّ الآن أنْفُكَ ، وتنال ما فَعَلَتْهُ كفك ، قال : كيف ذاك يا أمير المؤمنين ؟! هو سوقَة وأنا عَرْشٌ وتاج ! كيف ترْضى أنْ يخِرَّ النجْمُ أرْضاً ؟! فقال عمر رضي الله عنه : نزَوَاتُ الجاهِلِيَّة دَعْكَ منها ، ورِياحُ العنْجُهِيَّة ، فالنَّزَواتُ قد دَفَنَّاها أقَمْنا فوقها صَرْحاً جديداً ، وتساوى الناس لدَيْنا أحْراراً وعَبيداً ، فقال : كانَ وهْماً ما جرى في خَلَدي ، أنني عندك أقْوى وأعزّ ، أنا مُرْتَدٌّ إذا أكْرَهْتَني ، فقال عمر رضي الله عنه : عُنُقُ المُرْتدِّ بالسيفِ تُحَزّ .
عزل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه
اجتمع نفر من أهل الكوفة بزعامة الجراح بن سنان الأسدي فشكوا أميرهم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه إلى أمير المؤمنين عمر، و كان سعد عادلًا رحيمًا بالرعية قويًا حازمًا على أهل الباطل والشقاق ، عطوفًا على أهل الحقّ والطاعة ، ومع ذلك شكاه هؤلاء القوم ممن لا يطيقون حكم الحق ، ويريدون أن يحققوا شيئًا من أهوائهم ، فبعث عمر رضي الله عنه محمد بن مسلمة ليتأكد من دعاوي الشاكين ، وفي هذا بيان لمنهج الصحابة رضي الله عنه في التحقيق في قضايا الخلاف التي تجري بين العمال و الرعية فعزل سعدا رضي الله عنه درءًا للفتن وإماتتها وهي في مهدها قبل أن تستفحل فتسبب الشقاق والفرقة وربما القتال. وأصبح سعدًا مستشارا لعمر في المدينة ، ثمّ جعله من الستة المرشحين للخلافة حين طعن ، ثمّ أوصى الخليفة من بعده بأن يستعمل سعدًا وقال : فإني لم أعزله عن سوء .
الفاروقُ وعطاء أسامة بن زيد رضي الله عنه
فرض الفاروقُ عطاءً لأسامة بن زيد أكثر من عطاء عبد الله بن عمر ، فابن أمير المؤمنين عطاؤُهُ قليل وأُسامة عطاؤُه أكثر ! – فقال عبد الله لأبيه مُؤاخِذاً : يا أبتِ فَرَضْتَ لأسامة أربعة آلافٍ ، وفَرَضْتَ لي ثلاثة آلاف ، وما كان لأبيه من الفضْل أكثر مما كان لك ، وليس له من الفضْل أكثر مما هو لي ، فقال له سيِّدُنا عمر : إنَّ أباهُ كان أحَبَّ إلى النبي ﷺ من أبيك ، وكان هو أحَبَّ إلى رسول الله منك .
وكان عمر إذا لَقِيَ أُسامة بن زيد الشاب الناشئ يقول له : مَرْحَباً بأميري -شاب في أوائل العمر – فإذا رأى أحداً يعْجَبُ من كلامه يقول : لقد أمَّرَهُ عليّ رسول الله ﷺ
عزل خالد بن الوليد رضي الله عنه
وجد أعداء الإسلام في سعة خيالهم وشدة حقدهم مجالًا واسعًا لتصيد الروايات التي تظهر صحابة رسول الله ﷺ في مظهر مشين ، وقد تعرّض عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد رضي الله عنهما لمفتريات أعداء الإسلام ، الذين حاولوا تشويه صفحات تاريخنا المجيد، ووقفوا كثيرًا عند أسباب عزل عمر لخالد بن الوليد رضي الله عنهما وألصقوا التهم الباطلة بالرجلين العظيمين ، لقد عزل عمر خالدًا في المرة الأولى عن القيادة العامة ، وإمارة الأمراء في الشام ، في سنة 13 هجرية غداة تولي عمرالخلافة بعد وفاة الصديق رضي الله عنه .
وفي ” قنسرين ” من قرى بلاد شمال الشام جاء العزل الثاني لخالد وذلك في سنة 17هجرية لحماية التوحيد في قلوب الجند ويظهر ذلك جليا في قول عمر رضي الله عنه : ولكن الناس فتنوا به ، فخفت أن يوكلوا إليه ويبتلوا به . خشي عمر رضي الله عنه من فتنة الناس بخالد ، وظنهم أن النصر يسير في ركاب خالد ، فيضعف اليقين أن النصر من عند الله ، سواء كان خالدًا على رأس الجيش أم لا .
قمة الورع والعدل
ومن قمة ورعه وعدله خرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوماً إلى السوق ، فيرى إبلاً سماناً ، فيسأل عمر : إبل من هذه ؟ فيقول الناس : إبل عبد الله بن عمر، فينتفض عمر وكأنّ القيامة قد قامت ! ويقول : إبل عبد الله بن عمر بخ بخ يا ابن أمير المؤمنين ! ائتوني به ، فيقول عمر لولده عبد الله : ما هذه الإبل يا عبد الله ؟ فيقول: يا أمير المؤمنين إنها إبلي اشتريتها بخالص مالي ، وكانت إبلاً هزيلة ، فأرسلت بها إلى الحمى -أي: المرعى- أبتغي ما يبتغيه المسلمون أتاجر فيها ، فقال عمر بن الخطاب في تهكم لاذع مرير قاس على إمام من أئمة الورع والزهد ، قال عمر : نعم وإذا رآها الناس قالوا: ارعوا إبل ابن أمير المؤمنين ، واسقوا إبل ابن أمير المؤمنين ، فتسمن إبلك ويربو ربحك يا ابن أمير المؤمنين! قال يا عبد الله : نعم يا أبتِ ، قال: اذهب وبع هذه الإبل كلها ، وخذ رأس مالك ، ورد الربح إلى بيت مال المسلمين .
و جاء رجل يشكو إلى عمر، رضي الله عنه ، وهو مشغول فقال له “أَتَتْركون الخليفة حين يكون فارغاً حتى إذا شُغِل بأمر المسلمين أتيتموه؟ وضربه بالدرّة ، فانصرف الرجل حزيناً، فتذكّرعمرأنه ظلمه ، فدعا به وأعطاه الدرّة ، وقال له : “اضربني كما ضربتُك” فأبى الرجل وقال “تركت حقي لله ولك”، فقال عمر: “إما أن تتركه لله فقط ، وإما أن تأخذ .”
قال رسول الله ﷺ : ( نعم الرجل أبو بكر، نعم الرجل عمر بن الخطاب ، نعم الرجل معاذ بن جبل ).
أبو سفيان زعيم قريش وقف بباب عمر ساعات طويلة فلم يُؤذن له ، و بلال و صهيب يدخلان ويخرجان بلا استئذان ؛ فآلمه ذلك فلما دخل عليه قال : زعيم قريش يقف ببابك ساعات طويلة ولم يؤذن له و صهيب و بلال)
يدخلان بلا استئذان ؛ فأجابه بكلمة واحدة قال : يا أبا سفيان أأنت مثلهم ؟
عمر وقاتل أخيه زيد
يعتبر زيد بن الخطاب أحد السابقيين إلى الإسلام الذين استجابوا إلى دعوة رسول الله وقد سبق أخاه عمر إلى الإيمان بالله ونطق شهادة التوحيد
وكان عمر يحب أخاه الأكبر كثيراً حتى أن حبه له فاق حبه لولده
ولكن زيداً استشهد في معركة اليمامة ضد جموع بني حنيفة ومن حالفهم من أتباع مسيلمة الكذاب وكان زيد حامل لواء المسلمين وثبت ثبات الأبطال عندما دارت الدائرة في بداية المعركة على المسلمين فجعل زيد بن الخطاب يقول : “أما الرحال فلا رحال وأما الرجال فلا رجال”
ثم صاح بأعلى صوته : “اللهم إني أعتذر إليك من فرار أصحابي وأبرأ إليك مما جاء به مسيلمة” وجعل يشد بالراية يتقدم الصفوف يجالد أعداء الله حتى توفاه الله شهيداً (قتله أبو مريم الحنفي)
فلما قُتِل زيد وقعت راية المسلمين فالتقطها بسرعة سالم مولى أبي حذيفة ثم أنزل الله سكينته على المسلمين فاستجمعوا شتاتهم ورصُّوا صفوفهم وهجموا على عدوهم واثقين بنصر الله حتى فتح الله عليهم ولما عاد عبدالله بن عمر إلى أبيه وقد استشهد زيد فقال له :”هلك زيد وأنت حيٌّ … ألا واريت وجهك عنّي”
فقال عبدالله : “سأل الله الشهادة فأعطيها وجهدت أن تساق إليَّ فلم أعطها” … فبكى عمر وهو يقول : “رحم الله زيداً كان خيراً مني سبقني إلى الحسنيين أسلم قبلي واستشهد قبلي”
ودارت الأيام وأصبح عمر بن الخطاب خليفة المسلمين وبينما كان يجول في سوق المدينة يتفقد أحوال المسلمين التقى بأبي مريم الحنفي وكان قد أسلم فاستوقفه عمر قائلاً : أأنت قاتل زيد
فقال : أجل قال عمر : “والله إني لا أحبك حتى تحب الأرض الدم المسفوح”
فقال أبو مريم : أويمنعني ذلك حقِّي يا أمير المؤمنين ؟؟ فقال عمر : لا
قال : أو يُحِلَّ لك جَلْدَ ظهري ؟؟ فقال لا
فردَّ أبو مريم ساخراً وهو يقول :”ما لي ولحبّك .. إنما تأسى على الحبّ النساء”
فكظم عمر غيظه على جرأة أبي مريم وسخريته وأكمل تجواله في السوق …. فليس له عليه من سبيل ليس له أن يعاقبه . ليس له أن يظلمه حقه .
فليس بينهما إلا الحقوق والواجبات … له ما للمسلمين وعليه ما عليهم .
فرحم الله الفاروق عمر … الحاكم العادل وما هذه القصة إلا غيض من فيض من قصص عدله التي ملأت الآفاق . وتمر الأيام وبقي الفاروق حزيناً على أخيه … ويُروى أن عمر التقى يوماً متمم بن نويرة فقال عمر لمتمم : “يرحم الله زيد بن الخطاب لو كنت أقدر أن أقول الشعر لبكيته كما بكيت أخاك. فقال متمم : “يا أمير المؤمنين لو قتل أخي يوم اليمامة كما قتل أخوك ما بكيته أبدا. فسُرَّ عمر رضي الله عنه وقال :”ما عزاني أحد عن أخي بمثل ما عزاني به متمم .”
عمر والقضاء
عمر يستقيل من القضاء : عندما تولى أبو بكر الصديق الخلافة قام بتعيين عمر بن الخطاب قاضيًا على المدينة ، فمكث عمر سنة لم يفتح جلسة ، ولم يختصم إليه اثنان ، فطلب من أبي بكر إعفاءه من القضاء ، فقال له أبو بكر : أمن مشقة القضاء تطلب الإعفاء يا عمر ؟!
فقال : لا يا خليفة رسول الله ، ولكن لا حاجة لي عند قوم مؤمنين ، عرف كل منهم ما له من حق فلم يطلب أكثر منه ، وما عليه من واجب فلم يُقصِّر في أدائه .. أحب كل منهم لأخيه ما يحبه لنفسه .. إذا غاب أحدهم تفقدوه ، وإذا مرض عادوه ، وإذا افتقر أعانوه ، وإذا احتاج ساعدوه ، وإذا أصيب واسوه ..دينهم النصيحة ، وخلقهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ففيم يختصمون ؟ ففيم يختصمون ؟.( ضعفه أهل العلم ).
وفاته رضى الله عنه وأرضاه
وكان عمر رضي الله عنه يعلم من رسول الله ﷺ أنه سيلقى الله شهيدًا ، قال أنس بن مالك رضي الله عنه : صعد رسول الله ﷺ جبل أحد ، ومعه أبو بكر وعمر وعثمان ، فرجف الجبل بهم . فضربه رسول الله ﷺ برجله وقال له : ” اثبت أُحُد : فإنما عليك نبيّ ، وصديق ، وشهيدان”.
وعن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر رضي الله عنه قال : “اللهم ارزقني شهادة في سبيلك ، واجعل موتي في بلد نبيك” أو قال ” اللهم قتلًا في سبيلك ووفاة في بلد نبيك”.
وقد ذكر عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه بعض ما قاله أميرالمؤمنين في خطبة الجمعة 21 ذي الحجة 23هـ وهي آخر خطبة له ، قال : إني رأيت رؤيا ، لا أراها إلا حضور أجلي ، رأيت كأن ديكًا نقرني نقرتين! وإن قومًا يأمرونني أن أستخلف من بعدي وإن الله لم يكن ليضيع دينه ولا خلافته ، ولا الذي بعث به نبيّه ، فإن عجل بي فأمر الخلافة شورى بين هؤلاء الستة الذين توفي رسول الله ﷺ وهوعنهم راض وسمى عليا وعثمان والزّبير طلحة وسعدا وعبد الرحمن بن عوف وقال يشهدكم عبد الله بن عمروليس له من الأمرشيء. وقال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه : كنّا عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فقال: أيكم يحفظ حديث رسول الله ﷺ في الفتنة ؟ فقلت : أنا أحفظه كما قال . قلت : سمعت رسول الله ﷺ يقول : “فتنة الرجل في أهله وماله ونفسه وولده وجاره ، يكفرها الصيام والصلاة والصدقة ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” قال عمر: ليس هذا أريد ، إنما أريد الفتن التي تموج كموج البحر! قلت : مالك ولها يا أمير المؤمنين ، إنّ بينك وبينها بابًا مغلقًا! قال : فيكسر الباب أو يفتح ؟ قلت : لا، بل يُكسر! قال : ذاك أحرى أن لا يغلق أبدًا حتى قيام الساعة .
قال أبو وائل الراوي عن حذيفة : هل كان عمر يعلم من الباب ؟ قال حذيفة : نعم . كما يعلم أن دون غد الليلة قال أبو وائل فهبنا أن نسأل حذيفة من الباب ؟ فقلنا لمسروق : سل حذيفة من الباب ؟ فقال حذيفة : هو عمر.وعن سعيد بن المسيب رحمه الله : لما نفرعمررضي الله عنه من منى رفع يديه إلى السماء فقال: ” اللهم كُبرت سني ، وضعفت قوتي ، وانتشرت رعيّتي ، فأقبضني غيرمضيِّع ، ولا مفرط ، اللهم شهادة في سبيلك وميتة في بلد نبيك ” ثم قدم المدينة .
قال عمرو بن ميمون : إني لقائم في الصف ( ينتظر صلاة الفجر) ، ما بيني وبينه إلا عبد الله بن عباس ، غداة أصيب عمر، وكان إذا مرّ بين الصفين ، قال استووا ، فإذا استووا تقدّم فكبّر، وربما قرأ سورة يوسف أو النحل أو نحو ذلك في الركعة الأولى ، حتى يجتمع الناس ، فما هو إلا أن كبَّر، فسمعته يقول : قتلني -أو أكلني- الكلب ، حين طعن ، فطارالعلج بسكين ذات طرفين ، لا يمرُّ على أحد يمينًا ولا شمالًا إلا طعنه ، حتى طعن ثلاثة عشر رجلًا ، مات منهم سبعة ، فطرح عليه أحد المسلمين بُرْنسًا ، فلما ظنّ العلج أنه مأخوذ نحر نفسه ، وتناول عمر يد عبد الرحمن بن عوف فقدّمه للصلاة بالناس وأما نواحي المسجد فإنهم لا يدرُون ، غير أنهم قد فقدوا صوت أميرهم وهم يقولون : سبحان الله ، فصلى بهم عبد الرحمن صلاة خفيفة ، فلما انصرفوا قال عمر: يا ابن عباس ، انظرمن قتلني ، فجال ساعة ، ثم جاء فقال : غلام المغيرة بن شعبة ، أبو لؤلؤة فيروز) ، فقال عمر: قاتله الله لقد أمرت به معروفًا ، الحمد لله الذي لم يجعل منيّتي بيد رجل يدّعي الإسلام ، قد كنت أنت وأبوك – يريد العباس وابنه عبد الله- تحبّان أن تكثر العلوج بالمدينة . وحملوه إلى بيته ، وكأن الناس لم تصبهم مصيبة قبل يومئذ ، فأُتي بنبيذ (تمر نبذ في ماء ، أي نقعت في الماء ) فشربه ، فخرج من جوفه ، ثمّ أتي بلبن فشربه فخرج من جُرْحه ، فعلموا أنه ميت .
وقال رضي الله عنه: يا عبد الله بن عمر انطلق إلى عائشة أم المؤمنين فقل يقرأ عليك عمرالسلام ، ولا تقل أمير المؤمنين ، فإني لست اليوم للمؤمنين أميرًا، وقل يستأذن عمر بن الخطاب أن يبقى مع صاحبيه . فسلّم عبد الله بن عمر، واستأذن ثم دخل عليها فوجدها تبكي ، فقال : يقرأ عليك عمر بن الخطاب السَّلام ، ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه ، فقالت كنت أريده لنفسي ، ولأوثرنّه به اليوم على نفسي ، فلما جاء عبد الله بن عمر ، قال عمر: ما لديك ؟ قال : الذي تحب يا أميرالمؤمنين ، أذنت ، قال : الحمد لله ، ما كان من شيء أهمُّ إليّ من ذلك ، فإذا أنا قضيت فاحملني ثم سلم فقل : يستأذن عمر بن الخطاب فإن أذنت لي فأدخلوني ، وإن ردتني فردوني إلى مقابر المسلمين .
قال : فلما قبض خرجنا به ، فانطلقنا نمشي ، فسلّم عبد الله بن عمر، وقال : يستأذن عمر بن الخطاب ، قالت أمنا عائشة : أدخلوه ، فأدخل ، فوضع هنالك مع صاحبيه . قال عمرو بن ميمون رحمه الله : سمعته لما طعن يقول : { وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا } [ الأحزاب: 38 ].
اللحظات الأخيرة
يصف لنا ابن عباس رضي الله عنه اللحظات الأخيرة في حياة الفاروق ، حيث يقول : دخلت على عمرحين طُعنْ فقلت : ” أبشر بالجنة ، يا أمير المؤمنين أسلمت حين كفر الناس ، وجاهدت مع رسول الله ﷺ حين خذله الناس ، وقبض رسول الله ﷺ وهو عنك راضٍ ، ولم يختلف في خلافتك اثنان ، وقُتلت شهيدًا”، فقال عمر: أعد عليَّ ، فأعدت عليه ، فقال : والله الذي لا إله إلا هو، لو أن لي ما في الأرض من صفراء وبيضاء لافتديت به من هول المطلع .
وجاء في رواية البخاري : قال عمر أما ما ذكرت من صحبة رسول الله ﷺ ورضاه ، فإن ذلك من الله جل ذكره منَّ به علي ، وأما ما ترى من جزعي فهو من أجلك وأجل أصحابك ، والله لو أن لي طِلاع الأرض ذهبًا لافتديت به من عذاب الله عزوجل قبل أن أراه .
ويحدثنا عثمان رضي الله عنه عن اللحظات الأخيرة في حياة الفاروق فيقول : أنا آخركم عهدًا بعمر، دخلت عليه ، ورأسه في حجر ابنه عبد الله فقال له : ضع خدي بالأرض ، قال : فهل فخذي والأرض إلا سواء ؟ قال ضع خدي بالأرض لا أمَّ لك ، ثم شبك بين رجليه ، فسمعته يقول : ويلي وويل أمي إن لم يغفر الله لي حتّى فاضت روحه.
فهذا ما كان يتصف به أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه من خشية الله جل في علاه ، مع أنه أحد العشرة المبشرين بالجنة ، ولكن من كان بالله أعرف كان من الله أخوف ، وإصراره على أن يضع خده على الأرض من باب إذلال النفس في سبيل تعظيم الله عز وجل ، ليكون ذلك أقرب لاستجابة دعائه .
وسأل علي بن الحسين سعيد بن المسيب : من صل على عمر؟ قال: صهيب ، قال كم كبر عليه ؟ قال : أربعًا ، قال : أين صُلي عليه ؟ قال : بين القبر والمنبر. وقال ابن المسيب : نظر المسلمون فإذا صهيب يصلي لهم المكتوبات بأمرعمر رضي الله عنه فقدموه ، فصلى على عمر. ولم يقدم عمر رضي الله عنه أحدًا من الستة المرشحين للخلافة حتى لا يظن أحد أن تقديمه للصلاة ترشيحًا له .
قال جابر: نزل في قبرعمرعثمان وسعيد بن زيد وصهيب وعبد الله بن عمر.
وفي صحيح مسلم أن عليا ترحم على عمر وقال : « ما خلفت أحدا أحب إلي أن ألقى الله بمثل عمله منك ، وأيم الله إن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك ، وذاك أني كنت أكثرأسمع رسول الله ﷺ يقول : جئت أنا وأبو بكروعمر، ودخلت أنا وأبو بكروعمر، وخرجت أنا وأبو بكروعمر».قال الذهبي : استشهد عمر رضى الله عنه يوم الأربعاء لأربع أو ثلاث بقين من ذي الحجة ، سنة ثلاث وعشرين من الهجرة ، وهو ابن ثلاث وستين سنة على الصحيح . وكانت خلافته عشر سنين ونصفًا وبضع أيامً رضى الله عنه وأرضاه .
جمعه ونقحه الفقير إلى مولاه/
أبو الندي
محمود فوزي الموجي





































