دور المال السياسي في تأكيد العدمية القانونية
يُنسب مصطلح العدمية (nihilism) فلسفيًا إلى الفيلسوف الألماني (نيتشه) ويعني عدم الإيمان بشيء، لفقدان الأشياء قيمتها ومعانيها الحقيقية، فالإنسان العدمي هو الذي لا يؤمن بشيء، والعدم عنده أفضل من الوجود، إذ لا معنى للأشياء ولا معنى لوجودها. وقد تسرّب هذا المصطلح إلى العديد من المجالات المعرفية السياسية والأدبية والأخلاقية والقانونية.
فعلى المستوى الأدبي فالعدمية اصطلاح استعمله للمرة الأولى الروائي الروسي (تورجنيف) في روايته (الآباء والأبناء) عام 1862، وكان يقصد به في روايته هذه المعنى السياسي، والعدمية السياسية مذهب هدام يقوم على انتقاد الأوضاع السياسية والاجتماعية وعدم الاعتراف بشرعيتها.
أما العدمية الأخلاقية فمذهب هدام أيضًا إذ يقوم على إنكار كافة القيم الأخلاقية السائدة في المجتمع.
وللعدمية القانونية مدلولات كثيرة ومستويات عدة وأشكال مختلفة، وجماعها أنها حالة تسيطر على المواطنين بحيث تفقدهم الثقة في قدرة القواعد القانونية على القيام بدورها في تحقيق الضبط الاجتماعي، وقد تصل العدمية القانونية في ظروف ولأسباب معينة، إلى أعلى مستوياتها من الخطورة، بالإنكار التام لقدرة القانون على تحقيق الضبط الاجتماعي، وإنكار عام لنزاهة كافة مؤسسات الدولة وحيادها في تطبيق القانون. ومن جملة الأسباب التي تؤدي حتمًا إلى العدمية القانونية، بل ومن أشدها خطرًا وخطورة، المال السياسي.
وفي ظلّ قيام المواطن المصري بممارسة حقّه الدستوري والسياسي في اختيار نوابه في مجلسي الشيوخ والنواب، ليعبر من خلالهم عن حاجاته وتطلعاته الوطنية في كافة المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية وغير ذلك، تسود أجواء مظلمة وتمر سحابات كثيفة سوداء، ليخرج السيد الرئيس ببيان في السابع عشر من نوفمبر 2025 وذلك بعدما وصل سيادته الأحداث التي وقعت في بعض الدوائر الانتخابية التي جرت فيها منافسة بين المرشحين الفرديين.
وفي بيان السيد الرئيس فقد طلب من الهيئة الموقرة التدقيق التام عند فحص هذه الأحداث والطعون المقدمة بشأنها، وأن تُتخذ القرارات التي تُرضى الله، سبحانه وتعالى، وتكشف بكل أمانة عن إرادة الناخبين الحقيقية، وأن تُعلي الهيئة من شفافية الإجراءات من خلال التيقّن من حصول مندوب كلّ مرشح على صورة من كشف حصر الأصوات من اللجنة الفرعية، حتّى يأتي أعضاء مجلس النواب ممثلين فعليين عن شعب مصر تحت قبة البرلمان، ولا تتردد الهيئة الوطنية للانتخابات في اتخاذ القرار الصحيح عند تعذر الوصول إلى إرادة الناخبين الحقيقية سواء بالإلغاء الكامل لهذه المرحلة من الانتخابات، أو إلغائها جزئيًا في دائرة أو أكثر من دائرة انتخابية.
ولا شك أن المال السياسي كان أحد أهم الأدوات التي أدت إلى وقوع الأحداث التي أصدر السيد الرئيس بشأنها هذا البيان، فقد انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي العديد من المقاطع المصورة التي تنبئ عن تزوير إرادة الناخبين بتقديم التافه من المال أو الوجبات أو غيرها من أنواع الرشوة المادية لتوجيه الناخب نحو مرشحٍ بعينه.
وبالفعل فقد أبطلت الهيئة الوطنية للانتخابات أعمال (19) دائرة انتخابية، وأعقب ذلك أن قضت محكمة القضاء الإداري بإبطال أعمال (28) دائرة انتخابية، ليكون عدد الدوائر الملغاة (47) دائرة من أصل (70) دائرة، وإن كان الإلغاء لأسباب عديدة وليس بسبب المال السياسي فحسب، إلا إن هذا العدد من الدوائر الملغاة هو عدد مخيف، يثير العديد من التساؤلات ويبعث حالة من الإرتياب، وقد يُفقد المواطن الثقة في هذه العملية الانتخابية برمتها، وهذا في حدّ ذاته أحد أشكال ومستويات العدمية القانونية.
وعلى أي حال، فليس من شكٍ في أن هذا المال السياسي أو المال الأسود كما يُطلق عليه البعض، من أخطر ما يمكن أن يُستخدم في أجواء استحقاق هو من أهم الاستحقاقات الدستورية في البلاد، فمجلسا الشيوخ والنواب هما المنوط بهما التشريع وسنّ القوانين من جهة، والرقابة على أعمال السلطة التنفيذية من جهة. فهذان المجلسان لا يحتملان أن يتسلّل إليهما فاسدٌ أو جاهلٌ أو نفعيٌّ مستهدفًا من ترشحه تحقيق مصلحة شخصية محضة.
من أجل ذلك كان التوجيه الرئاسي واضحًا لا لبس فيه، لئلا تصل بنا الأمور إلى حالة من العدمية السياسية أو القانونية، مما لا يحتمل الوطن وطأته لا في هذا الوقت ولا في غيره من الأوقات.
دكتور. عماد حمدي البحيري






































