إنّه يوم الجمعة..
اليوم الوحيد الّذي يستيقظ فيه النّاس وكأنّهم خرجوا لتوّهم من دورة تدريبيّة في اللّطف والأخلاق.
الجميع يرسلون لكَ: “جمعة مباركة” “اللّهمَّ اغفر لنا” اللّهمَّ نسألُكَ الرّحمةَ”
حتّى ذاك الّذي لم يردَّ على رسائلِكَ منذ العام 2017 مثلًا، يرسلُ لكَ آياتٍ إيمانيّةً.
الجميعُ يبتسمُ لكَ، الأسعارُ مقبولةٌ، وكيلو الفاكهة في الميزانِ يُصابُ بالتُّخمة لزيادةِ وزنِهِ، وترى الباعةَ يرتدون أثوابَ الحِملانِ وداعةً ورقّةً، وصاحبُ السّاندويشات يضعُ فيه كلَّ شيءٍ فيحشوه حشوًا كأنّهُ يَفي نذرًا بإفطارِ صائمٍ، وألفاظُهُ تذوبُ حلاوةً بعد أنْ كانت لُؤمًا جارحًا.
يا إلٰهي ما هٰذا الكرمُ؟! ما هٰذا التّواضعُ؟!
أيُّ روحٍ قدسيّةٍ تحلُّ على التّاجرِ حتّى يلينَ قلبُهُ؟! أليسَ هو ذٰلك الّذي أقسم بالأمسِ أنَّ الغلاءَ من الشّركة؟! لفومن مستوردي بائعي الجُملة؟! وأقسمَ لكَ باللهِ العظيم أنّهُ يبيعُ بالرّسمال؟!
أمّا السّائقون…
فهٰؤلاء تحديدًا يُصيبُهُم مَسٌّ مِنَ اللّطفِ الغريب، ومن سُموِّ الخُلُقِ والرِّفعةِ.
الزّمور صامتٌ كأنّه في إجازة،
العقلُ حاضرٌ،
القلبُ خهواسعٌ لدرجةِ أنّهُ يُفسحُ لكَ الطّريقَ ويشيرُ بيدِهِ أنْ “تفضّلْ” حتّى ولو كانت له أحقِّيَّةُ المرورِ
كأنّهُ اكتشفَ فضيلةَ الإيثار، ويتحوّلُ من فارسٍ عنتريٍّ يمتطي الأبجرَ، أو حصانَ طروادة، إلى راه تحجج بٍ مُتبتّلٍ خرجَ لتوِّهِ من ديرِهِ، أو أنّهُ تخلّصَ من شعورِهِ بإقطاعيّةِ ملكِيَّتِهِ الخاصّةِ للطّريق، فيصير حاكمَ الهندِ، ويتغاضى عن هفواتِكَ في عدمِ إتقانِكَ فنَّ مهارةِ القيادةِ المُثلى.
كلُّهُم يتمتَّعُون بتسامحٍ غريبٍ قلَّ نظيرُهُ، ويحترمون إشارةَ السّيرِ، ويرفعون أيديهم مُحَيِّينَ شرطيَّ السَّيرِ حتّى ليكادوا يسلِّمون عليه ويربّتون على كتفِهِ شكرًا وامتنانًا، بعد أنْ كانوا بالأمسِ ينعتونَه بأبشعِ الصّفاتِ، وأفظعِ العباراتِ بصوتٍ منخفضٍ لا يصلُ إلى أذُنَيهِ لا احترامًا ومهابةً، بل خوفًا من ضبطِ محضٓرِ عقوبةٍ.
وعند تقاطعِ الطّريقِ يتبارزون في التّنازلِ عن أولويّةِ حقّهم بالمرور.
كما تلتقي بالوجوهِ الغريبةِ الّتي لا تعرفُها، فتحسَبُهُم أقاربَكَ من لحمِكَ ودمِكَ لكثرةِ تودُّدِهِم يُلقُونَ عليكَ التّحيّةَ، فَتَخالُهُم أخوتَكَ في الرّضاعة.. يهشُون بوجهِكَ ويعاملونَكَ بمحبّةٍ وذوقٍ وتهذيبٍ، حتّى لتظُنَّ نفسَكَ وَلِيًّا حُقَّ لكَ التّكريمُ والإجلالُ…
ويؤذِّنُ العصرُ
لينتهي بعدَهُ مفعولُ هدنةِ الرِّضا والتّسليمِ لمراسيمِ التّقوى واللّطفِ والأدبِ والذّوقِ…
ويبدأُ يومٌ جديدٌ لا علاقةَ له بالأمسِ، ليعودَ كُلُّ شيءٍ إلى ما كان عليه قبل يومِ الجمعة، كالهواءِ الّذي ينسحبُ من البالون.
فشمسُ اليومِ لا تمدُّهُم بالطّاقةِ الإيجابيّة نفسِها كشمسِ الأمس، فترى النّاسَ يتعاملون مع اليومِ الجديد كفرصةٍ لتعويضِ ما فاتَهُم من ضبطِ فجورِ الأمسِ، فيعودُ النّاسُ إلى طبائعِهِم، كما يعودُ القطيعُ إلى حظيرتِهِ، والحديدُ إلى صَدَئِهِ، وينتهي مفعولُ “حبّة الجمعة” وتسقطُ أقنعةُ الوَرَعِ والإيمان، ويعودُ الغضبُ مستأسدًا يزأرُ في كلِّ مكان لدى تضارُبِ المصالحِ الخاصّةِ، لتعودَ السّرعةُ الجنونيّةُ الهوجاءُ تتصدَّرُ الشّوارعَ والأحياءِ، لتُغيّرَ خارطةَ الإسفلتِ وتُطيحَ بالحُفَرِ مُغَيِّرَةً معالمَ الطّريق، وتتحوّلُ المنافسةُ على المرورِ إلى معاركَ قبليّةٍ، ترتفعُ فيها الأصواتُ، وتتطايرُ اللّعناتُ، وتنهالُ الشّتائمُ متبارزةً في تصعيدِ مستواها اللّفظيِّ البليغِ التّعبيرِ الّذي يدلّ على ثقافةِ “التّعتير” وسوءِ تربيةِ الضّمير، وبيئةِ تخرُّجِهِ، إذْ يحسبُ كلُّ من يقودُ سيّارتَهُ بأنَّ الشّارعَ إرثُ أبيهِ من جَدِّهِ، وأنّ عدمَ تسجيلِهِ في الدّوائرِ العقاريَّةِ قد وقعَ سهوًا..
كيف لا، وهم يخوضون حربًا ضروس في معركةِ إثباتِ الوجود…
وتعودُ الأسعارُ إلى القفزِ الأرنبيّ كأنّها تتدرّبُ على الأولمپياد، ويعودُ الغشُّ كالقردِ يتسلّقُ جيوبَ العائلاتِ المستورةِ، يقطفُ منها قُوْتَهُم اليوميّ،
يتسلّلُ كاللّصِ، فيختبئُ في الوزنِ، في السّعرِ، في البضاعةِ، حتّى في النّيّات،
“وتعود حليمة إلى عادتها القديمة”
وكأنَّ يومَ الجمعةِ هو يومُ تجميلٍ وطلاءِ وجوهٍ، وتكلُّفٍ وزيفٍ وادّعاءٍ.
ليتَهُ يستمرُّ لأكثرَ من يومٍ واحدِ، ولا يكونُ قناعًا لطيفًا نَلبَسُهُ لساعاتٍ فقط،ثمّ نرميهِ كورقةِ منديلٍ.
ويا ليتَهُ لا يكونُ عرضًا تجاريًّا مُقدّمًا للهِ تعالى ليومٍ واحدٍ!
حبّذا لو يستمرُّ أكثرَ لربّما كنّا مجتمعًا ألطفَ وأرقى.
عايدة قزحيّا
من كتابي: “آداب المجتمع”






































