رأي ابن خلدون في مقاطع التيك توك
السوشيال ميديا سلاح ذو حدّين، يمكننا أن نستخدمه كوسيلة لنشر محتوى علمي وتثقيفي مفيد، وترفيهي أيضًا، ويمكن أيضًا استخدامه في نشر مقاطع تافهة وفاضحة بلا فائدة ولا قيمة، وتتفاوت أحجام الفضائح بحسب قابليَة المجتمع للتّفاعل معها واستيعابها، وللأسف فإنها قد اتّسعت حتّى وصلت فى مجتمعنا إلى نشر أخصّ خصوصيّات الشّخص وهو في بيته مع أمّه وأخته وابنته، بل في غرفة نومه مع زوجته في مقاطع فيديو مصوّرة حيّة على برامج التيك توك والفيس بوك وغيرهما.
يحلّل لنا ابن خلدون في مقدمته الشّهيرة والنّفيسة، كيف يصل المجتمع إلى هذه الحالة من الاجتراء على نشر تلك الفضائح واستمرائها وكأنّها شىء عادي لا مؤاخذة فيه ولا حرج منه.
ويتناول ابن خلدون هذه القضيّة الاجتماعيّة تحت عنوان (فصل في أنّ الحضارة غاية العمران ونهاية لعمره وأنّها مؤذنة بخرابه) ويبتدئ ابن خلدون تحت هذا العنوان ببيان ما مؤدّاه أن المدنيّة تتطوّر شيئًا فشيئًا حتّى تصل إلى حدٍّ كبير من الحضارة المادّيّة، ومع ظهور الحضارة الماديّة تتنوّع أسباب التّرف ووسائل التّرفيه بحيث لا تقع تحت حصر، ويكون كلّ فرد فى المجتمع حريص كلّ الحرص على أن يحصل لنفسه ولأهله على أكبر قدر ممكن من وسائل الرّفاهية، ولأجل ذلك يكون حرصه شديدًا على جمع المال الّذي به تتحقّق تلك الرّفاهية. وليس من شكّ في أنّ الحرص على جمع المال بأيّ شكل من الأشكال ومن أيّ وجه أو مورد هو في الحقيقة مبدأ الفساد.
وإليكم ما قاله ابن خلدون مع تعليق عليه لإيضاح معناه، وإسقاطه على واقعنا المعاصر.
يقول ابن خلدون (وأمّا فساد أهلها في ذاتهم واحدًا واحدًا على الخصوص فمن الكدّ والتّعب فى حاجات العوائد) هنا يوضح لنا ابن خلدون أنّ فساد أهل المجتمع الّذى وصل إلى حالة من المدنيّة وتعدّدت فيها وسائل التّرفيه، إنّما يبدأ بالحرص على تحصيل المال لكفاية الحاجات المتعدّدة والمتكاثرة. (والتّلوّن بألوان الشّر فى تحصيلها، وما يعود على النّفس من الضّرر بعد تحصيلها، بحصول لون آخر من ألوانها) أيّ وأنّه فى سبيل ذلك قد يقترف الإنسان الشّرّ الّذى يجرّه إلى شرٍّ آخر مثله أو أشدّ منه، حتّى يصبح ذلك سجيّة فيه وخلقًا له. (فلذلك يكثر منهم الفسق والشّر والسّفسفة والتّحيُّل على تحصيل المعاش من وجهه ومن غير وجهه) يبين لنا ابن خلدون أنّه يترتّب على ذلك أن تكثر الشّرور فى المجتمع، والسّفسفة تعني الاهتمام بالسّفاسف، وهي الأمور التّافهة، وكذلك استخدام الحيل والنّصب والخداع من أجل تحصيل المال من أوجهه المشروعة أو غير المشروعة. (وتنصرف النّفس إلى الفكر في ذلك والغوص عليه واستجماع الحيلة له) أي لا يصبح شاغل الفرد فى هذا المجتمع ولا تفكيره إلّا في كيفية تحصيل المال بأيّ شكل كان ومن أيّ مورد متاح. (فتجدهم أجرياء على الكذب والمقامرة والغش والخلابة والسّرقة والفجور في الأيمان والرّبا فى البياعات) ويبين ابن خلدون أنّه يترتّب على ذلك أنّنا نجد النّاس تسلك كلّ المسالك غير المشروعة من أجل تحصيل المال سواء من طريق الغش أو الاحتيال أو الرّبا أو ممارسة الفجور وإشاعته بين النّاس، والخلابة تعنى الخديعة والنّصب. (ثمّ تجدهم لكثرة الشّهوات والملاذ النّاشئة عن التّرف أبصر بطرق الفسق ومذاهبه والمجاهرة به وبداوعيه) أي ومن كثرة انشغالهم بالشّهوات والملاذ، تجدهم يعرفون طرق الفسوق والفجور الّتي تعود عليهم بالمنافع المادّيّة والملذّات الحسّيّة، ولا مانع من اقترافها والاجتراء عليها. (وإطراح الحشمة فى الخوض فيه، حتّى بين الأقارب وذوي الأرحام والمحارم الّذين تقتضي البداوة الحياء منهم في الإقذاع بذلك) وهنا تتبدا خطور الأمر، لأنّ النّاس عند هذه المرحلة لا تمنعهم الحشمة والحياء من اقتراف تلك الفضائح، إذ لا حشمة ولا حياء، والدّاهية الكبرى أنّ النّاس يطرحون الحشمة مع الأقارب وذوي الأرحام، فلا مانع من تصوير البيوت من داخلها وكأنّها لا حرمة لها، ولا مانع من تصوير الأمّ والأخت والزّوجة في مشاهد لا تليق، إذ المهم عند هؤلاء تحقيق أكبر قدر من المشاهدات لتحقيق أعلى الأرباح حتّى وإن انتُهكت الحرمات والخصوصيّات. (وتجدهم أيضًا أبصر بالمكر والخديعة، يدفعون بذلك ما عساه أن ينالهم من القهر وما يتوقعونه من العقاب على تلك القبائح) أى ولأن ما يقترفه هؤلاء السّفلة من جرائم يعرفون أن القانون يعاقب عليه، وقد تعرضهم أفعالهم تلك إلى المساءلة، فإنهم يسلكون الطرق غير المشروعة من الرّشوة والكذب والتّزوير ويحذقونها من أجل دفع التهم والعقوبات عنهم. (حتى يصير ذلك عادة وخلقًا لأكثرهم إلا من عصمه الله) أى وتصبح هذه هي أخلاقهم وعادتهم. (ويموج بحر المدينة بالسّفلة من أهل الأخلاق الذّميمة) أي ويكثر الفسدة والمفسدون فى المجتمع. (ويجاريهم فيها كثير من ناشئة الدولة وولدانهم ممن أهمل عن التّأديب وأهملته الدّولة من عدادها وغلب عليه خلق الجوار، وإن كانوا أهل أنساب والبيوتات) ويبيّن لنا ابن خلدون أن الكارثة الأكبر تقع عندما تجاري الناشئة من الشّباب والفتيات الصغار ما يجرى عليه المجتمع من خلاعة وفسوق فى غفلة من أسرهم وغيابهم وانشغالهم عن أبنائهم. أو فى غفلة من الدولة ومسئوليتها عن العناية بهم أو توقيع العقاب عليهم. (وذلك أن الناس بشر متماثلون وإنما تفاضلوا وتميزوا بالخلق واكتساب الفضائل واجتناب الرّذائل، فمن استحكمت فيه صبغة الرذيلة بأى وجهٍ كان، وفسد خلق الخير فيه، لم ينفعه زكاء نسبه ولا طيب منبته) ويرد ابن خلدون السّبب فى ذلك أن الفرد يتأثر فى تربيته بالبيئة الاجتماعية التي يعيش فيها، فإن كانت فاسدة فسد مهما كانت أخلاق أهله صالحة ومهما علا شرف البيت الذي ينتسب إليه، إلا إذا راقبت أسرته تصرفاته وتعاهدته بالرعاية والتوجيه. (ولهذا تجد كثيرًا من أعقاب البيوت وذوي الأحساب والأصالة وأهل الدّول منطرحين فى الغمار، منتحلين للحرف الدنيئة فى معاشهم بما فسد من أخلاقهم وما تلونوا به من صبغة الشّر والسفسفة) أي إنه ليس من المستغرب بعد ذلك أن تجد أولاد هذه الأسر المحترمة وقد انخرطوا مع السّفلة يجارونهم في سلوكياتهم الذميمة وأعمالهم الدنية، لأن هدفهم واحد وهو تحصيل المال من أجل الحصول على أكبر قدر من وسائل الترفيه والراحة.
ثم يضع لنا ابن خلدون القانون النهائى المترتب على تحليله السابق، وهو أنه كلما كثر ذلك فى المجتمع ترتب عليه الخراب، فيقول (وإذا كثر ذلك فى المدينة أو الأمة تأذّن الله بخرابها وانقراضها)، وهو معنى قوله تعالى ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا﴾ صدق الله العظيم.
ولذلك فمما يُحمد لجهات التحقيق في مصر أنها تبذل جهدها في رصد مثل هذه الجرائم المخلّة بالقيم الدينية والاجتماعية لتقدمها للقضاء ليقضى فى شأنها بقضاء رادع للمتهم خاصة وللمجتمع عامة حفظًا للمجتمع وإعلاء لدستوره.
د. عماد حمدى البحيرى






































