تساؤلات الشّاعر محمد البدري
الشِّعرُ الكرديُّ له خصوصيَّتُه، عالمُه الواسع.
التَّساؤلات ضربةٌ على رؤوس السّائرين نحو السَّراب.
عِصمت شاهين الدُّوسكي
نجدُ اختلافًا بين قصيدةٍ تُرجِمَت مِن قبلِ الشّاعرِ نفسه، كونه يتحسَّس كلَّ كلمةٍ يترجمها ويحاول أن ينقل روحَها وفكرَتَها ومضمونَها كما هي في جمالها وإيقاعِها الرُّوحي والإنسانيّ وصدقِ صورِها… نعلم أنَّ هذا يحتاج إلى جهدٍ من الشّاعر المترجم لقصيدته. وبين مَن يترجم قصيدةً لشاعرٍ آخر، يحاول أن يضع نفسه وروحه في مكان الشّاعر الّذي كتب القصيدة… ربَّما تأتي القصيدة المترجمة غير متكاملة، ولكنّها لا تنطوي على خيانة أو أيَّة صفةٍ أخرى مشابهة… لأنّ هدفَ المُترجِم هدفٌ سامٍ؛ فهو يقدّم روحًا وفكرًا ومشاعرَ وأصالةَ شعب. هدفه أن يخدم الآخرين بإخلاصه ووفائِه للنّص الّذي يرسو عليه. يا ترى هل نُطلق صفة الخيانة أو أيَّة صفةٍ تُشبِهها على مَن ترجم لنا أشعارَ فلوبيير ومسرحياتِ شكسبير وأشعارَ أحمد خاني وعبد الله گوران ولطيف هلمت؟ أيُّ كاتبٍ يجيب بنعم، فليطلق هذه الصّفة على نفسه أوّلًا، لأنّه يتمنّى أن تُترجم أعمالُه إلى اللّغات الكرديّة والفرنسيّة والألمانيّة والإسبانيّة… وما دام يظنّ أن المترجم خائن حين يترجم عملًا ما، فمَن يساعده خائنٌ أيضًا… فمجرّد موافقةٍ على ترجمة أعماله إلى لغةٍ أخرى هو استدراجٌ للخيانة. فهل يقبل الكاتبُ والشّاعرُ أن يحملا مثلَ هذه الصّفة؟
الشِّعرُ الكرديُّ له خصوصيَّتُه، عالمُه الواسع، قدسيَّتُه، تاريخُه الأصيلُ والطّويل… باعتراف البعيد قبل القريب. الشّاعرُ المبدع محمد البدري ترجَمَ قصيدتَه بنفسه، ولهذا ستكون أقربَ إلى روحِه، وهي قصائد قصيرة من الشِّعر الكردي المعاصر. وهي تساؤلاتٌ مؤلمة، وجدانيَّة، يجد لها الإجابة، وأسئلةٌ أخرى تكون إجاباتُها مكنونة، يحاول أن يستدرج القارئ ليشاركه همومَه وأفكارَه وتساؤلاتِه…
“سألتُ المطرَ ذاتَ يوم:
لماذا تتركُ الأعاليَ وتتساقط؟
لماذا تغادرُ هذه المناطقَ الجميلةَ
وتنزل إلى الأرض؟”
المطرُ بما يحمله من رمزٍ للخير والعطاء، يتّصلُ بعطاء الإنسان، وبما يحمله من خير. الصِّفة أزليَّة بين المطر والأرض… هو أيضًا حلم، حلمٌ في فضاءٍ رحب، والأرضُ واقع. وقد يكون هذا الواقعُ مؤلمًا. رغم هذا الألم يتساقط المطر. إنَّه انصهارٌ في الألم بين ذرَّات التّراب. الحلمُ والواقع مترادفان، متضادّان، لكنّهما بجسدٍ واحد وروحٍ واحدة… والحلمُ لوحده لا يحقّق شيئًا، إلَّا باتّصاله بالواقع. إذًا فهو اتّصالٌ أزليٌّ: المطرُ والأرض، الحلمُ والواقع… فيا ترى كيف سيكون الرّد؟ ردُّ المطر؟
أجاب:
“إنَّ مَن لم يَعِشْ في الأرض
لا يحسُّ بقيمة الذُّرَى،
لذا تجدني مضطرًّا
للتّساقط والنّزول إلى الأرض.”
نرحل مع البدري إلى صورةٍ أخرى وتساؤلٍ آخر. الفقرُ آفةٌ من آفات المجتمع، وشيوعُه يعني تدميرَ مجتمعٍ ونتائجَه المرئيّة وغير المرئيّة… تدهور، تدنّي الأخلاق، مرضٌ يؤثّر على المستوى الشّمولي، الفكريّ، الرّوحيّ والنّفسيّ للإنسان في ذلك البلد الّذي يكون فيه الفقرُ كالأخطبوط. وقد قال الإمام عليٌّ عليه السّلام: «لو كان الفقرُ رجلًا لقتلتُه». وهذه أعظمُ دلالةٍ على طاغوت الفقر. يجسد لنا البدري صورةَ الكرم والفقر بتساؤله:
“ذاتَ يوم
قلتُ لِحاتم الطائي:
ما سببُ ذياعِ صِيتِكَ بين النّاس؟”
إن من لم يشعر بالجوع والحرمان والألم، مَن لم يعش بين طيَّات ودياجير الفقر، لا يمكن له أن يشعر بها… ويتأثّر تأثيرًا روحيًّا وإنسانيًّا بمن يحيا حوله، خاصّة الّذين يتجلَّى حولهم وفيهم هذا العقربُ الصّغيرُ الكبير… «الفقر».
ومن لم يُحارِب الفقرَ يغدو أعمقَ فقرًا، وربّما تكون نهايتُه على راحتي الفقر… لهذا نرى ردَّ البدري ثوريًّا، إنسانيًّا، وبصورةٍ شموليّة. قال:
“لقد توغَّلتُ في كُنهِ الجوع
ورُحتُ أُحارِبُه
وهذا ما دعاني للثّورة ضدّه
ولهذا مددتُ الخِوان
أمام الفقراءِ والمساكين.”
ومن علاقة المطر بالأرض، الفقر والكرم، ينقلنا البدري إلى عالم الحقيقة واللّا حقيقة، عالم الرّضوخ والّلا رضوخ، عالم الإيمان واللّا إيمان. [إبليس – آدم] هما صورتان للشّرّ والخير. سنَتَّفِقُ معًا، ولكن عندما يكون إبليس رمزًا للصدق والحقيقة، هل سنتّفق؟
ربما الأغلبية سيصرخون: «لا». ولكن إذا كان إبليس موجودًا بيننا، هنا وهناك، وفي أيّ مكانٍ من هذا العالم… أعتقد أنّ الأبالسة كثيرون في هذا العصر.
علينا ألَّا نترك البدري ما دامت تساؤلاته المؤلمة قائمةً ومتجدّدة… ترى كيف تكون صورة الرّحيل؟
إن تركَ المكان الّذي يحيا فيه الإنسان منذ طفولته، والّذي أصبحت جذورُه بين ذرَّات وعمق الأرض متّصلةً ببعضها، إنَّ الرّحيل عن الشّيء، خاصّةً الّذي نحبُّه، فحسب، لأنّ هذا الرّحيل سيبقى ألمًا متّصلًا بنا… يشاركنا الهواءَ والماءَ والزّاد… إلى حين العودة واللّا عودة. فهذه الينابيع ستبقى عَكِرةً وحائرة، وهي تجري، ربّما تدري إلى أين أو لا تدري، وهي تَسكُب العَبرات… وعَبراتُ الرّحيل هي عَبراتٌ من الدّم، من الروح… وألمُ الرّحيل ما بعده ألم. إنّ تساؤلَ البدري عن جريان الينابيع وهي عَكِرة، حائرة، وهي تتحسّر بألم، كونها تغادر منابعها، وكلَّ أصدقائها وأحبّائها… لهم اتصالٌ جذريٌّ بالأرض، وعمقُ هذا الاتّصال لا تشعر به سوى هذه الينابيع…
“قالوا:
لماذا وهي تجري إلى الجنوب
تسكب الدّموعَ وتتحسَّر بألم؟
قلتُ:
لأنّها تغادر أشجارَ الجوز
وهي ترتدي ثيابَ الحِداد.”
إن محاولةَ البدري في التقاط صورٍ متميّزة من هذا العالم الواسع وبحثِه المستمرّ على المشهد الّذي يخدم الإنسان لهي ضربةٌ على رؤوس الغافلين والسّائرين نحو السَّراب، وهي دلالة أكيدة على إنسانيّة هذا الشّاعر المبدع. سترسو مراكبُنا هنا، فهنا مرفأُ الجسد، ولكن سنستمرّ في الإبحار ما دامت هناك إبداعاتٌ وتساؤلاتٌ على أمواج الرّوح والحياة.
21/3/1993
عصمت شاهين الدوسكي






































