كبرتُ
حتّى صرتُ أرى الطّريقَ من شقوقِ قدمي،
والسّماءَ من انحناءةِ كتفي،
والحياةَ من ندبةٍ
لم تعد تُخيفني.
كبرتُ
ولم أعد أبحثُ في الوجوه
عن وجهٍ يشبهني،
ولا في الطّرقات
عن خطىً تعيدني إلى نفسي القديمة.
كبرتُ،
ولم تعدِ الهزائمُ تخيفني،
فكلُّ ما خسرته
كان البابَ الّذي قادني إليّ.
كبرتُ،
لكنّني ما زلتُ أرتجف
حين تقولين لي: أحبّك.
فالعمرُ نصفُه خسارات،
ونصفُه الآخر
قبلةٌ تتأخّر
لكنّها تأتي.
تعلّمتُ
أنّ الألمَ ليس علامةَ سقوط،
بل علامةُ أنّني ما زلتُ واقفاً،
وأنّ الخساراتِ
هي الّتي ربّتْ هذه الحكمةَ على رأسي.
كبرتُ،
وصرتُ أرى كلَّ شيءٍ واضحاً:
الخذلانُ الّذي يشبه مقعداً بارداً،
والأملُ الّذي يشبه ضوءاً جريحاً،
والحبُّ الّذي لا يعيش إلاّ إذا مشى على أطراف أصابعه.
كبرتُ…
وصار قلبي أكثر هدوءاً،
أصغر حجماً،
وأشدّ اتّساعاً.
مفارقةٌ لا يفهمها أحد غير الّذين نجا نصفُهم
ومات نصفُهم الآخر
وبقوا واقفين.
كبرتُ،
ودفعتُ رأسي إلى الأمام
كي أرى الطّريق،
لا كي أرفع رايةً جديدة.
فالحياةُ ليست معركة،
ولا نشيداً وطنيّاً،
إنّها مجرّد غرفةٍ ضيّقة
يتقاسَمُها قلبان
ويُضِيئُها فنجانُ قهوةٍ موضوعٌ بعناية
على طاولةٍ متعبة.
كبرتُ…
ومع كلّ شعرةٍ بيضاء؛
أسمع صوتي يقترب منّي أكثر،
وأشعر أنّ يدي
تُربّت على كتفي
كما لو أنّني أواسي نفسي
بنفسي.
كبرتُ يا حبيبتي،
ولم أعد أريد الانتصار،
كلّ ما أريده الآن
هو ألّا أسقط.
أن أبقى واقفاً
ولو على عكّازِ إصبعي الأخير.
ما عدتُ أريدُ من العالم شيئاً،
سوى أن يبتعد قليلاً
كي أسمعَ صوتي.
يا الله…
تعالي لتري
ماذا فعلت الخمسة بعد الخمسين
نصفُ العمر مرّ،
لكنّ الكلمة
ما زالت بيتاً
أعود إليه حين أتعب.
تعالي…
نُرمم هذا العمر كما نُرمم سقفاً يتهالك،
نرقّع الأيام،
ونحشو الفجوات بشيءٍ من ضحكٍ قديم،
بكسرةِ خبز،
بقبلةٍ قصيرة،
بنظرةٍ تقول:
“لم تنتهِ بعد”.
تعالي
نجمعُ أنفاسنا المتعبة
ونصنعُ منها سلّماً
نصعدُ عليه نحو الصّباح.
تعالي
نتمسّك ببعضنا
لا كمن يغرق،
بل كمن يتعلم السّباحة
بعد فوات الأوان.
تعالي
فما زال في آخر العمر
متّسعٌ
لحبٍّ
لا يشيخ.
تعالي…
نسندُ أرواحنا إلى بعضها،
نعلّق الماضي على شمّاعة الباب،
ونخرج بخطواتٍ خفيفة
كما لو أنّنا نولد للمرّة الأولى
لا للمرّة الأخيرة.
كلُّ امرأةٍ
تحتاجُ إلى شجرةٍ تتّكئ عليها،
وها قد صرتُ شجرتك
بعد طول انكسار.
تعالي…
فالفراغُ كبير،
واللّيلُ طويل،
والعالمُ يتقلّص من حولنا
إلّا هذا الفضاء الصّغير بين يديك ويدي
يتّسع،
ويتّسع،
ويتّسع
لحلمٍ أخير
لن نندم عليه.
علي الراعي






































