للشّاعر :مؤيد نجم طاهر حنون
مقدمة
في زمن تتداخل فيه الأصوات وتتشابك فيه المواقف وتُطمر فيه حقيقة الإنسان تحت ثقل الأحداث، يجيء الشّعر كنافذة نطلّ منها على أرواحنا وعلى هذا العالم الّذي يختبر قدرتنا على الصّبر والرّؤية. ومن بين النّصوص الّتي تفرض حضورها بما تملكه من صدق وجمال وجرأة وجوديّة، تبرز قصيدة “حضارة من دم وعطور “للشاعر :مؤيد نجم حنون طاهر، نصّاً يكشف عمق التّجربة الإنسانيّة أمام حضارة تتجمّل بسطحها وتخفي تحت لمعانها كلّ هذا الخراب.
هذه القراءة محاولة للاقتراب من جوهر القصيدة وتعميق النّظر في رؤيتها الوجوديّة والانطباعيّة والتّعبيريّة، وإعادة اكتشاف ما تمنحه من دلالات تمتدّ من الذّات إلى العالم.
**حضارة الوجع وصوت النّجاة
قراءة في البنية الوجوديّة والانطباعيّة لقصيدة حضارة من دم وعطور**
**الفصل الأوّل
العتمة التي تضيء والسّلالة الّتي تنقرض**
تنفتح القصيدة على مشهد يفرض ظلاله منذ اللًحظة الأولى. مدن تُضاء بالعتمة، وصباح يُرسم فوق جدار من رماد، وعاشق يتجوّل كأنّه آخر السّلالة، حاملاً قلبه في كفّه وسط حرّاس يسجّلون أسماء القتلى في دفاتر مذهّبة.
في هذا المشهد تتجسّد مقولة الشّاعر الأولى، فالحضارة التي تتزيّن بالبريق تخفي تحت قشرتها جرحاً واسعاً. ويمنح الشّاعر للقلب المكشوف رمزاً لشفافية الإنسان الأخيرة في وجه منظومة تتاجر بالحياة والموت.
**الفصل الثًاني
قشرة التّحضّر وسراب الحلم المختنق**
يتقدّم النّص نحو جوهر رؤيته الوجوديّة حين يعرض التّحضّر كقشرة تلمع فوق الألم. فالعطور الغالية الّتي يفترض أن تبثّ الحياة تصبح في القصيدة سبباً لاختناق الحلم تحت أبراج الزّجاج.
هنا يظهر بوضوح مبدأ المفارقة الوجوديّة؛ فكلّ ما يبدو جميلاً يتحوّل إلى قوّة ضاغطة، وكلّ ما يُفترض أنّه رمز للرّفاه يتحوّل إلى أداة للمحو. النّصّ لا يصف الحضارة من الخارج، بل يكشف طبقاتها الدّاخليّة عبر لغة تعمل على التّناقضات العميقة وتعيد بناء معنى العالم من خلال أثر الألم.
**الفصل الثّالث
الأقنعة الثّابتة والدّولاب الّذي لا يتوقّف**
في مقطع الأقنعة، يدخل النّصّ منطقة أكثر رمزيّة. تتغيّر الأقنعة بينما تبقى الوجوه نفسها، ملطّخة بالتّرف والدّم معاً. ويتحرّك الدّولاب الّذي لا يتوقّف كعلامة على سيرورة حضاريّة غير قادرة على التّوقّف عند الحقيقة أو النّظر إلى جوهر الإنسان.
بهذا المشهد يبرز عجز الإنسان المعاصر عن رؤية ذاته، وعجز الحضارة عن كشف وجهها الحقيقي. فالتّغيير يبدو سطحيّاً، بينما تبقى البنية العميقة مثقلة بعبء التّاريخ والدًم.
**الفصل الرّابع
ليل الخوف وسلام الأرواح التّائهة**
يمتدّ اللّيل كوشاح من أسى يخفي الوجوه خلف نوافذ الخوف. وتتسكّع الأرواح في الأزقّة بحثاً عن معنى للسّلام، غير أن السّلام يتحوّل إلى سلعة تُباع وتُشترى بدمعة طفل ونصف ابتسامة منسيّة.
تقدّم هذه الصّورة حالة من التّيه الرّوحي، حيث يتراجع الإنسان أمام حركة العالم العمياء، ويصبح السّلام حلماً معلّقاً فوق جدار الخسارات.
**الفصل الخامس
ترفّ العطور فوق أنهار الدّم**
يرصد الشّاعر مفارقة حضاريّة دامغة، فالعطور والورود الّتي تُعلن جمال العصر تسقط في الدّم الفائض عبر السّدود، فينكشف القناع بالكامل.
بهذه الصّورة يعيد النّصّ تعريف الحضارة، ويكشف هشاشتها أمام الحقيقة الّتي لا تنحجب مهما حاول البذخ أن يجمّل وجهها.
**الفصل السّادس
الوردة سجنٌ والنّدى مقصلة**
في ذروة القصيدة، يواجه الشّاعر الحضارة بصوت مباشر. تتحوّل الوردة إلى سجن، والشّاهد إلى صمت، والنّدى إلى مقصلة، بينما تنتظر القلوب المأسورة حرّيّة تشبه أوّل نبضة في رحم الصًبح.
إنّه مشهد إنسانيّ عميق يستعيد براءة الأشياء الّتي فقدت معناها حين تورّطت الحضارة في تشويهها.
**الفصل السّابع
القصيدة فعل مقاومة وآخر شهقات الجمال**
تختتم القصيدة بفكرة كبرى مفادها أنّ الكتابة هي الفضاء الأخير الّذي لم تفسده الحضارة بعد. فالكلمة تتحوّل إلى مقاومة، وصوت الإنسان يظهر في لحظة تغيب فيها الأصوات، وتبقى القصيدة شاهدة على نقاء لم يمسّه الخراب.
إشادة بالشّاعر ومقاربته الوجوديّة
الشّاعر مؤيد نجم حنون طاهر يقدّم في هذا النًصّ عملاً يزاوج بين الرّمز والعمق، بين الانفعال والوعي، وبين التّعبيريّة والبعد الفلسفي. لقد كتب قصيدة تُحاور الوجود وتكشف هشاشته، وتعيد للإنسان صوته وسط صخب العالم وانطفاء قيمه.
هذه المقاربة الوجوديّة تمنح النّصّ بريقاً داخليّاً لا يخفت، وتشهد على قدرة الشّاعر في تحويل الألم إلى فنّ، والجراح إلى لغة حيّة.
خاتمة
إنّ هذه القراءة ليست سوى محاولة لملامسة الضّوء المتواري في القصيدة وفتح باب إضافي للتّأمّل في ما تمنحه من معنى وجمال. فقصيدة “حضارة من دم وعطور” لا تقف عند حدود الوصف، بل تنحت رؤيتها الخاصّة للعالم، وتستعيد الإنسان في أقصى لحظات ضعفه وقوّته معاً.
إنّها قصيدة تقول ما لا يُقال، وتعيد بناء الوعي من داخل الجرح، وتؤكّد أنّ الشّعر يظلّ دائماً الملاذ الّذي يختبئ فيه القلب من صخب العالم، ويتوهّج فيه المعنى من جديد. قاسم عزام






































