قراءة في شعر ( نيالاو حسن آيول ) شاعرة الجنوب السوداني
بقلم … السعيد عبد العاطي مبارك الفايد – مصر ٠
” لا بدَّ لي أن أعبرَ
بينَ كلابِ المدينةِ
ومُوسيقى الصّباح
تحت الرَّصاص
لكي أكتبَ على ساقِ شَجَرةِ المانجو
هذه القصيدةَ كذكرياتٍ تُمارسُ الحِيَلَ على يومٍ ماطر،
الطّقسُ مُجَرَّدُ اِبتسامةٍ مُلتَوية
يمارسُ الانزلاقَ من خلال ثُقب السّماءِ المضطرب
يَنِزُّ غرائبيّةً غامضةٍ،
كغناءِ مشعوذٍ في أحلك أيّام يناير الباردة ! ” ٠
( من قصيدة : تميمة لشجرة المانجو )
——–
في البداية عندما نغوص في نصوص الشّعر السّوداني من زوايا البنية و المعنى في ثنائيّة التّكوين نشعر بجماليّاته من خلال التّذوّق الفنيّ المركب داخل العمق و التّراث و التّاريخ حيث الجذور المتينة الّتي أثمرت القصيدة الجنوبيّة كي تتلاقى مع صيرورة النّيلين في تدفّق بلا حدود هكذا ٠
و منذ مطالعتنا لعالم الهادي آدم وصلا بهذه الشّاعرة ” نيالاو حسن آيول ” نتوقّف هنا مليّاً حول رحلة الشّعر بين الحنين و الحزن و الحلم مع سلامة المشاعر في أتون الصّراع المتقلّب و المتجدّد معا ً ٠
و شاعرتنا ليست بمعزل عن ( مأساة الفاشر ) ترصد يوميّاته في سرد يعكس ملامح الرّؤى من زوايا الحيرة و الدّهشة في تناغم و شجن كحكايات التّاريخ الشّاهد على الحدث في إنصاف ٠٠
أليست هي القائلة في رائعتها بحسّها الحزين و الشّوق من منافي الغربة في أحدث قصائدها الّتي تحمل عنوان ( ياجنوب ) في نداءات بمثابة نوبات استغاثة :
“يا أرض حفيف الأجنحة الّتي في عبر أنهار كوش”
يا قوّة عاطفة خطّ الاستواء!
لأنّني أنتمي إلى النّاجين من الماضي؛
ولن ينطوي في طيّ النّسيان أبدا؛
أنتمي الى جيل ورث دخان الرّصاص بين الرّئتين؛
وعين الجوع المتوهّجة،
والأرواح المهمّشة الحطام ؛
والعظام الطّويلة الباردة!
سأظلّ أبحث فيك عن الشّمس المذهلة!
يا جنوب
يا كلمة مختومة في زنوجة أرواحنا.
يا أعشاب نيلنا الأبيض.
وقوارب الصّيد السّوداء .
ياصوت الغابات العميقة
يا قمّة “الأماتونغ”
يا نجمة زنجيّة
في أجنحة السّماء،
وملايين السّنين من حكايات الجدّة الخرافيّة!
يا جنوب
الجرح الحادّ في حدود سحرك
يؤلم قلبي!
وهذا البارود يشرخ رائحة بساتين الأناناس،
ويجرح أشجار المهوقني
ويؤلم قلبي!
لأنّني أنثر بذور رحمي
فوق الرّيح ،فوق زهور الأشجار
فوق الغابات، فوق المخاوف،
على مدار شمسك الحارقة
وتمتلئ بها الشّقوق في أمواج النّيل
يحملها الهواء الدّافئ من الأرض
أغنية سرقتها لأشجار
لتنبت أطفالا كطائر الفينق
ويموتون ويرجعون من جديد،
الحرب تؤذي عيني
متى تنتصر فيك الحياة يا أرض الطّيور الزرقاء ! ٠
* نبذة عن الشاعرة :
————————-
نيالاو حسن آيول شاعرة من جمهورية جنوب السّودان ٠
و نيالاو حسن ايول من مواليد مدينة ملكال بولاية أعالي النّيل .. – لها مجموعة شعريّة بعنوان ” قرابين نيكانق” ٠
ومجموعة أخرى تحت الطّبع.
تخصّصت في علم النّفس، تقيم وتعمل في أمريكا الشّمالية.
* مختارات من شعرها :
===============
نجدها في هذا النّص تحت عنوان ( أقبل نوفمبر ) الّذي له دلالة الزّمن و الحدث تنطلق من هذا الشّهر شاعرتنا (نيالاو حسن آيول ) لترسم لنا لوحتها كالعصفور الجريح لكنّها تشدو قائلة :
أقبل نوفمبر…سلام يا نوفمبر
..يا صمت الأرض حين تنصت للخريف ويا سكون القلب حين يعبر البرد عتبة الحلم
هذه أنا
وتلك الكتب
وفنجان الشّاي
وغيوم نوفمبر
والفراغ الجميل بين التّعب واستراحة الرّوح من ماضيها القريب
نراقب الغيم خلال النّافذة يمرّ ببطء،
ونبتسم!
كأنّنا نغفر للعالم كلّ شيء
في فنجان قهوة
كلّ رشفة تعيد وجهكَ إلى النّافذة،
كظلّ يمرّ ثمّ يختفي
…
نوفمبر لا يشبه غيره
ولا يحدث تماما
بل يتدلّى بين الخريف والشّتاء
كفكرة نائمة في رأس المواسم والفصول.
***
و تنتقل بنا الشّاعرة الجنوبيّة نيالاو أيول ، في قصيدة أخرى بعنوان ( هذياني القديم ! ) ذات مقاطع متشابهة تختصر لنا معادلة الحياة في حالة غير مستقرّة الوجدان بين تصادم و قلق ٠٠
1.
في سُرّةِ الشُكوك
المَكان الأكثر عَتَمَة من قلبِ الإنسان
أشتري صكوك اليقين ؛
الأحلام وكلّ ما هو أزرق بلون السّماء
2.
كلّ أحزاني إيماءت بسبب الإيمان المنهك.
أجلس فوق شجرة الحياة
كعصفور دمّرتِ الرّياح عشّه
3
في مصيدة القدر أتظاهر بأنّني أذوب في هويّتي الجديدة
لا شيء أمامي سوى زهور مفرش الطّاولة الباهتة
يدي على إزميل المصائر
وكلّ ما هو منسوج من خدعة الحياة
4
أرفع الكأس
ألتقط الوطن من الطّاولة
أرشفه ببطء،
أقول في سرّي: لا تحرق في داخلي شهيّة الإنتماء
للوطنِ الّذي فرّقنا على الهامش
وفي المنفى تعادلنا في بؤسِ الغياب
5.
نخبك أيّها الصّمت المتجمّد في شفتي
نخبك يا ملح الفراق!
تخرج أنتَ من فجوة غيابك،
من رغوة الكأس
تدخل بين فتحات القصائد
وأدخل أنا في الإقتران الشّرس مع الجحيم !٠
***
و نختم لها بتلك القصيدة التّأمّلية الفلسفيّة في نزعة جماليّة تصور فيها مدى التّغيّرات تحت عنوان ( بَنَات الجنوب ) اللّائي يشكّلن العمق المجتمعي و صدى الواقع في رمزيّة تشرق بين الواقع و الخيال في لغة متماسكة حيث تقول فيها :
دَّوَّارَة رِياح الآلِهة الدّافئة حين تمرّ بمدار شَمَس الإستواء
وترتجَّ ككلمة الرّوح في الإيقاع الشّعري !
إهتزاز المَطَر النّاعَمِ الحميم لحفيف حدائق المانجو والأناناس.
صَّلاة الأبَنوس الخَاشِع للَّوْنُ الشَّاهِق!
لسَواد اللَّيْل حين يشتعل به اللَّهيب!
بَنَاتُ الجَنوب
نسغ الحياة العميق في يد “نيكانق”
قبلهنّ فكن ماء” السوباط” الهادئة
زهور “الموز” اليانع
ليل خط الاستواء الدّافئ..
و “النّجوم في ليل بشرتهنّ لآلئ”
بَنَاتُ الجَنوب
أُبَّهة أوراق شجيرة “الباباي” الأبدي .
إلفة “النّيل” لملامسة الزّرافات والغزالات وطير “البقر”
أَسْرَار الفِطْرَة الأُولَى !
السّماء تتمتم بسَحَرَهنّ.
وتلعن كلّ من حاول العبث بطَلاسِم الجَمَال البِدَائِيٌّ النّقي!
______
الصورة سيوبر موديل اجاك دينق، جنوب السودان
الإله (نيكانق) وهو الإله الرّوحي لقبيلة الشّلك ومؤسّس ممل






































