مصرُ.. ذاكرةُ الضميرِ ومشكاةُ السلامِ
بقلم : أشرف كمال
منذُ أن نُفخَ فجرُ الوعيِ في صدرِ الإنسانِ، بقيتْ مصرُ الصوتَ الذي لا يخفتُ حينَ تصمتُ الأصواتُ، والضميرَ الذي يصحو حينَ يغفو ضميرُ العالمِ. لم تكنْ أرضُ الكنانةِ مجرّدَ حدودٍ على خريطةٍ جغرافيةٍ، بل كانتْ — وما زالتْ — رقعةً من روحِ اللهِ في الأرضِ، تنبضُ بالحكمةِ، وتفيضُ سلامًا في زمنٍ يعصفُ فيهِ الجنونُ بموازينِ العدالةِ.
هنا، حيثُ يلتقي التاريخُ بالنبوءةِ، تنسجُ مصرُ خيوطَ حضورِها الأبديِّ، وتخطُّ بخطاها فصلًا جديدًا في سفرِ النورِ الإنسانيِّ.
– ريادةٌ تُكتبُ بالحكمةِ لا بالهيمنةِ ..
لم تكنْ ريادةُ مصرَ صدىً لقوةٍ غاشمةٍ أو لسلطانٍ زائلٍ، بل كانتْ فعلَ بصيرةٍ تدركُ أنّ الإنسانيةَ هي أقوى أسلحةِ الأممِ. حينَ اختارَ العالمُ صخبَ البنادقِ، اختارتِ القاهرةُ لغةَ الصبرِ واليقينِ. ووقفتْ شامخةً كأهراماتِها، تقاومُ محاولاتِ التهجيرِ ومسخَ الهويةِ، لا بحدِّ السيفِ، بل بحدِّ الموقفِ.
رفضُها لم يكنْ تمرّدًا، بل إعلانًا لميلادِ الضميرِ في عالمٍ أنهكَهُ التجاهلُ. ومن بينِ جدرانِ الدبلوماسيةِ الهادئةِ، انطلقتْ دعوتُها إلى أوروبا والعالمِ، تستحضرُ فيهم إنسانيتَهم الضائعةَ، وتذكرُهم أنَّ السلامَ ليسَ رفاهيةً سياسيةً، بل فريضةً أخلاقيةً، وأنَّ الكرامةَ حقٌّ لا يُمنحُ، بل يُولدُ مع كلِّ نفسٍ بشريٍّ.
وهكذا بزغَ من القاهرةِ فجرُ فكرةٍ لطالما نُسيتْ: أنَّ حلَّ الدولتينِ ليسَ تسويةً، بل شهادةُ ميلادٍ جديدةٌ للعدالةِ.
– القاهرةُ.. مدينةٌ تفاوضُ باسمِ الإنسانِ ..
في سماءِ القاهرةِ، التي عبرتْها أجنحةُ الأنبياءِ ومرّتْ فوقَها حروبُ الملوكِ، ما زالَ الأملُ يقيمُ في بيوتٍ من حجارةٍ تعبقُ بالذاكرةِ. على موائدِها تجتمعُ الأضدادُ، لا لتقتسمَ الخرائطَ، بل لتتقاسمَ بقايا الأملِ.
هناكَ تُدارُ مفاوضاتُ وقفِ النارِ كما تُدارُ الصلواتُ؛ بخشوعٍ وإصرارٍ على الحياةِ. وتُفتحُ المعابرُ لا عبورًا للجغرافيا فقط، بل عبورًا للرحمةِ من القلبِ إلى القلبِ.
ورغمَ ما تورّطتْ فيهِ أيادٍ عربيةُ من دماءِ الجنودِ المصريينَ، وما بدرَ من تصريحاتٍ مُسيئةٍ ضدَّ مصرَ رئيسًا وشعبًا، لم تَحِدْ القاهرةُ عن نهجِها النبيلِ. نظرتْ إلى الجرحِ لا كطعنةٍ في خاصرتِها، بل كدليلٍ على عمقِ الجرحِ الإنسانيِّ كلِّه، وتعاملتْ مع الموقفِ بميزانِ الدولةِ العاقلةِ التي تُفرّقُ بينَ الخلافِ العابرِ والحقِّ التاريخيِّ الثابتِ. فالقضيةُ الفلسطينيةُ في عينِ مصرَ ليست خصومةً سياسيةً، بل قدرٌ إنسانيٌّ يرتبطُ بجوهرِ العدالةِ وبإيمانِها الراسخِ بحلِّ الدولتينِ ووقفِ الإبادةِ وإحياءِ الحقِّ الفلسطينيِّ على أرضِه.
– سلامٌ يُكتبُ بالحبرِ والدمعِ ..
وفي مشهدٍ آخرَ من فصولِ الحكمةِ السياسيةِ، تجلّتْ الهيبةُ المصريةُ حينَ دعا الرئيسُ الأمريكيُّ دونالد ترامب الرئيسَ عبدالفتاح السيسي مرتينِ لزيارةِ البيتِ الأبيضِ، فآثرَ رئيسُ مصرَ أن يبقى حيثُ تصنعُ القراراتُ لا حيثُ تُصفّقُ الجماهيرُ. لكنه ما إن وجّهَ دعوةً إلى ترامب لحضورِ مراسمِ توقيعِ اتفاقيةِ السلامِ في القاهرةِ، حتى لبّى الأخيرُ الدعوةَ، وأعلنَ حضورَهُ الأحدَ القادمَ، وكأنَّ السياسةَ ذاتَها انحنتْ لتُحيّي ثباتَ الدولةِ التي لا تُساوِمُ على كرامتِها.
سيأتي يومٌ — ولا بدَّ أن يأتي — تُوقّعُ فيهِ الأيدي التي تعبتْ من الحربِ اتفاقًا باسمِ الحياةِ. يومَها، لن يكونَ المنتصرونَ من حملوا البنادقَ، بل من حملوا الإيمانَ بجدوى الغدِ. وسيجلسُ التاريخُ في الصفِّ الأولِ، يصفّقُ لـمصرَ التي لقّنتِ العالمَ درسًا في أنَّ العظمةَ لا تُقاسُ بكمِّ الهزائمِ التي نُلحقُها بالآخرينَ، بل بقدرتِنا على إقناعِهم أنَّ السلامَ هو أعلى درجاتِ الانتصارِ.
تحيةٌ لـمصرَ… التي لا تنحازُ إلا إلى الإنسانِ، ولا تحاربُ إلا دفاعًا عن معنى الوجودِ.
فهيَ — منذُ فجرِ الحضارةِ — الحارسُ الذي لا ينامُ على أبوابِ الضميرِ، والمعلمةُ التي ما انفكتْ تكتبُ دروسَ السلامِ على جدارِ الزمنِ، بحبرٍ من الحكمةِ، ونورٍ من القلبِ.






































