دعينا من الشّعر الآن
أقسم لكِ، أنّ القصيدةَ لن تعيد لي حذائي الضّائع
ولا تنفعُ لشراءِ بطاقةِ قطارٍ مهترئة
ولا تقنعُ شرطي الحدود بأنّني لستُ مجرما
بل فقط غريبٌ، نسيَ أن يحفظ اسمهُ بالأجنبيّة.
تعالي أحدّثكِ عن الغربة، مثلا،
عن الوجوه الّتي لا تراكِ حتّى وأنتِ تموتينَ في منتصف الرّصيف
عن الخبزِ الّذي لا يشبه أمّي
وعن الملحِ الّذي لا يذوب في الدّمع.
الغربةُ…
ليست فكرةً نختارها
بل تُلقى على ظهورنا كحقيبةٍ زائدةٍ في المطار
نحملها، لأنّها تُشبهنا:
ثقيلة، مُهملة، ولا أحد يريدها.
في الغربةِ تعلّمتُ أشياء كثيرة.
تعلمتُ أن أصنع الفطائرَ بعجينةٍ من صمتٍ وندم،
أن أرقّ الكرواسون وكأنّني أُقَدِّمُ اعتذارًا لمدينةٍ لم ترحّب بي،
أن أحشو المعجنات بحليبٍ يفتقدُ اسم أمّي.
تعلمتُ الحلوى والمرّ، وصنعتُ تيراميسو من نفسِ الدّموع،
أصبحتُ أمهرَ من يخبزُ ابتسامةً تُباع بالقطعةِ في مطبخٍ بلا زبائن.
صرتُ أعلمُ أيَّ درجةِ سكّرٍ تصلحُ للحنين،
أيّ كميّةِ قرفةٍ تُخفي رائحةَ الهزيمة،
أخلطُ البيضَ كمن يخلطُ كلماتِه لآخر موعدٍ مع البقاء،
أقلبُ المقلاةَ كما إذا كنتُ أقلبُ صفحاتي بحثًا عن وطنٍ في أسفلها.
كنتُ أحسب أن هذا سيُخيفُ الغربةَ،
أنّي بطبخي سأجعلُها تحترمُني،
لكنّ كلّ شيءٍ هنا يحترق.
تحترقُ الفطائرُ قبل أن تُطهى.
تحترقُ المعجناتُ في الفرنِ بلا رحمة.
حتّى قميصي الوحيد -ذاك الّذي كنتُ أرتديه كأنّه شهادةٌ على وجودي-
يحترقُ حين أدفنه في المياه: أغسلهُ، أغرقهُ، أدفنهُ بحركاتٍ طفوليّة، فلا شيء
يبقى.
أعدُّ المشروباتَ، أُسكبُها بوقارٍ كمن يؤدّي جنازةً يوميّة.
أضعُ كأسين على الطّاولةِ. أملأُ أحدهما بالحنين والآخر بالفراغ. لا أحد يجلس.
سوى الوحدة، تضع ساقا فوق ساق، وتنظر إليّ كأنّها تعرفني منذ الطّفولة.
أضحكُ بصوتٍ رفيع؛ ضحكٌ يذوبُ في فمِ الملعقة.
ثم ماذا؟… نموت؟
نموت غُرباء مثل كلابٍ ضلّت الطّريق؟
نموت دون أن يُمهَّد لنا فراشٌ بلغةٍ نحبّها؟
أم يموت الوطنُ معنا في كلِّ مرّةٍ نحاولُ طهوه؟
تقولين لي: أكتبْ شيئا جميلا هذه اللّيلة
وأنا لا أعرف كيف أجمّل قبرا من التّعب،
لا أعرف كيف أضع الكحل في عيونِ الزّمن،
ولا كيف أعدُّ أصابعي دون أن يختفي واحدٌ كلّ فجر.
دعيني من الشّعر الآن.
أريدُ أن أقولَ شيئا مباشرا، قاسيا، بلا فضائلٍ مزيّفة:
هل كنتِ لتُحبينني لو متُّ في مدينةٍ لا تعرفين اسمها؟
هل كنتِ ستأتين لتبحثي عنّي بين قوائم الانتظار؟
أم ستبكين فقط لأنّك تذكّرتِ أن طعمي لم يُصلَح؟
الغربةُ يا حبيبتي لا تُترجم، ولا تُكتب،
هي فعلٌ وحيد: أن تُؤكلَ بيدٍ واحدة،
أن تُبلعَ بدمعٍ بطيءٍ لا يلاحظهُ أحد.
أن تتقاسمَ الوحدةَ مع نفسكَ في كلِّ وجبة.
فإذا لم تأتِ، سأفعلُ ما تحبُّ الغربةُ أن تفعله:
أُشعلُ الموقدَ كإعلانِ وفاةٍ صغير،
أدخلُ قميصي في الماءِ وأدفنهُ، كي لا يعرف أحدٌ أينَ دفنته،
أخبزُ فطيرةً أخيرة، أضعُ فيها دقائقَ أيامي،
أُقفلُ النّافذة، أطفِئُ النّور.
أجلسُ وأنتظِرُ أن يفعلَ المكانُ بي ما تأبى الكلماتُ أن توضّحه.
صوتٌ واحدٌ يقطعُ كلّ شيء: طقطقةٌ في الموقد.
ضحكةٌ قصيرةٌ تخرج من صدري.
أشهقُ. التّنفّسُ يتثاقل. المدينةُ تبتلعُ الضّجيج.
أُسمعُ نفسي أقولُ كلمةً واحدةٍ متلعثمةٍ: اذهبي.
ثم شيءٌ صامتٌ، عنيفٌ ومباشر.
سقوطٌ.
صمتٌ مُمتدّ.
انطفأتُ.
انطفأت. انطفأت. انطفأت. انطفأت…
محب خيري الجمال
Moheb Khairy Elgmmal






































