الحُلم الضّائع
الفصل الأول: الطّفولة – بذور الحلم
في ذلك المخيم الصّغير ، المعلّق بين الجبال والوديان بعد التّهجير ، كان الهواء أنقى من أن يُحبس في صدر، وكانت السّماء أوسع من أن تُقاس بعيون الصّغار. هناك وُلد “ناصر”، طفلًا يحمل ملامح البساطة وفضول الاكتشاف . لم يكن يعرف الكثير عن العالم، لكنّه كان يعرف أنّ الأرض الّتي يركض عليها ليست مِلكًا للغرباء، بل ملكٌ للتّراب الّذي غاصت فيه أقدام أجداده.
كان يستيقظ مع أول خيوط الفجر، يركض نحو البيت وفي أزقة ضيّقة ، يتمايل كأنّه يرقص على نغمات الرّيح. يمدّ ذراعيه كجناحين صغيرين، يحاول تقليد الطّيور الّتي تحلّق فوقه، وكأنه يتحدى القيود الّتي أجبر عليها مع أهله ،ويضحك حين يسقط في التّراب.
جلساته مع والده كانت نافذة أخرى على الحلم. في المساء، حين يهدأ كل شيء، كان الأب يشعل قنديل الزيت ويروي له قصصًا عن زمنٍ بعيد، عن رجالٍ وقفوا في وجه الظلم، وعن قلوبٍ لم تخشَ القتل ولا السجن. وكان ناصر يصغي بعينين تتّقدُ بالدهشة.
في المدرسة، لم يكن تلميذًا عاديًا. كان يرسم أكثر مما يكتب، ويخطّ على دفاتره شمسًا كبيرة تطلّ من بين قضبانٍ سوداء. وحين تعود أمّه لتغسل ثيابه بعد اللعب، كانت تتمتم:
“اللهم اجعل له نصيبًا من هذا الحلم، ولا تكسره كما كُسِرَت أحلامُ غيره.”
في تلك الطفولة الهادئة، بدأت بذور الحلم تُزرع في قلبه.
الفصل الثاني: الوعي الأول
كبر ناصر قليلًا، وبدأت عيناه تلتقطان ما وراء الحكايات. رأى في وجوه الكبار مَسْحةَ حزنٍ عميقة، كأنهم يخفون خلف ابتساماتهم جروحًا قديمة. سمع من جدّه همسًا:
“الأرض يا ناصر … ليست مجرد تراب، إنها ذاكرة.”
أصدقاء المدرسة بدأوا يختفون واحدًا تلو الآخر، والجنود يملؤون الطرقات. الكلمات التي سمعها عن “الحرية” و”الوطن” صارت تُقال همسًا. وفي ليلةٍ ماطرة، قرأ في صحيفة خبرًا عن شبابٍ اعتُقلوا لأنهم رفعوا راية “علم ” . ارتجف قلبه لأول مرة .
ومنذ تلك الليلة، لم يعد يرسم شمسًا فقط، بل صار يرسم وجوهًا خلف القضبان وأطفالًا يُلَوّحون من وراء الأسوار. صار حلمه أوضح، لكنه أيضًا صار أكثر وجعًا.
الفصل الثالث: السجن
في مظاهرةٍ شبابية خرجت من المدرسة، حمل ناصر راية صغيرة وغنّى بصوتٍ مرتجف. لكنه لم يقطع الشارع حتى وقع في أيدي الجنود. اقتادوه كما تُساقُ الخراف والنعاج .
في مركز التحقيق، لم يتوقفوا عن الأسئلة والضرب. لكنه ظلّ صامتًا، متشبثًا بصورة الشمس التي لم تفارقه.
أودعوه زنزانة ضيقة لا تتسع إلا لجسدٍ متعب. الضوء يتسرّب من ثقبٍ صغير، والجدار رطب يقطر ماءً. ومع ذلك، كانت روحه أوسع من المكان .
في الليل، كان يغمض عينيه ويرى الجدار ينهار والفجر يتسلل والأطفال يركضون أحرارا .
كان يقول لنفسه:
“قد يأسرون جسدي، لكن حلمي يظلُّ حرًّا.”
الفصل الرابع: صراع الروح والجسد
الزمن في السجن صار بحرًا ساكنًا. جسده ينهار ببطء: وجنتاه غائرتان ، خطواته متثاقلة، وأنفاسه صارت تقاوم الخروج . لكنّ روحه كانت تزداد قوة.
كل ضربة، كل ليلة جوع، كل حرمان من النوم، كان يزيد يقينه بأن الحلم لا يُقتل بالعذاب. على جدار الزنزانة، حفر بأظافره شمس الحرية ، واحيانا رسم طائرًا، وطفلًا يبتسم. وصارت هذه العلامات وصيته الأولى .
كتب بيد مرتعشة:
“إن مُتُّ هنا، فليكن موتي حياةً لغيري، وليكن دمي حبرًا يكتب به طفلٌ غدًا كلمة: حرية.”
الفصل الخامس: الوصية
حين أدرك أنّ النهاية قريبة، بدأ يوزّع حلمه في رسائل صغيرة. كتب لأمّه:
“لا تبكِي يا أمي… علّمي إخوتي أنّ الحلم لا يموت.”
وكتب لوالده:
“لقد كنتَ على حق يا أبي… أنا لم أخُنك.”
وكتب للأطفال الذين لم يولدوا بعد:
“ابحثوا عن شمسي المرسومة على الجدار، ستدلّكم الطريق.”
كل رسالة كانت تخفّف ثقل السجن وتجعله يشعر أن الحلم خرج من الزنزانة قبله.
الفصل السادس: الرحيل
ليلة باردة، جلس ناصر يستند إلى جدار الزنزانة. رأى نفسه شابا يجري في حقول واسعة وحدائق جميلة يسمع صوت أمّه وابتسامة أبيه. تمتم بصوت واهن:
“أنا لست مهزومًا… أنا ذاهب إلى فجرٍ أوسع من سجني .”
ثم أغمض عينيه بابتسامة، وغادر.
في الصباح، وجد الحارس جسده ساكنًا، و وصاياه مبعثرة على الجدار. لم يفهموا معناها، لكنهم أدركوا أنّ شيئًا عظيمًا غاب من المكان.
الفصل السابع: الولادة الجديدة
مرت سنوات. في المخيم نفسه ، وُلد طفل جديد. حملته أمّه نحو الشمس، وهمست له:
“لتكن حياتك أوسع من هذا الجدار.”
ابتسم الطفل ابتسامة غامضة. كبر قليلًا، وصار يرسم شمسًا كبيرة على جدران البيت. وحين سألته أمّه:
– “لماذا ترسم الشمس دائمًا يا بني؟”
أجاب ببراءة:
– “لأنها تفتح لي الطريق.”
وهكذا، لم يكن موت ناصر نهاية الحلم، بل بداية جديدة له.
فالأحلام قد تضيع في جسدٍ يُسجن أو يُنهك، لكنها دائمًا تولد من جديد في قلب طفلٍ لم يعرف بعد معنى القيود.
أ. سامية البابا
فلسطين






































