ابن خلدون: في مدارات العقل وأسرار الزّمن ..
بقلم: سلمى صوفاناتي
في أعماقِ تونسَ، حيثُ تتنفّسُ الحجارةُ حكاياتِ العصورِ، وتهمسُ الأزقّةُ بأسرارِ الماضي، وُلِدَ فجرُ عقلٍ استثنائيٍّ. كانَ اسْمُهُ نغمةً من نغماتِ التّاريخِ: أبو زيد عبد الرّحمن بن محمد بن خلدون الحضرميّ. لكنَّ الكونَ، بكلِّ ما يحملُ من ألغازٍ، اختزلَهُ في اسمينِ: “ابن خلدون”، وكفى. لم يكُنْ ميلادُه مجرّدَ حدثٍ يُسجَّلُ، بل كانَ بدايةَ انزياحٍ كبيرٍ في فهمِ الإنسانِ لنفسهِ، وللقوانينِ الخفيّةِ الّتي تحكمُ صعودَ الأممِ وسقوطَها.
نشأَ الصبيُّ بينَ أروقةِ المعرفةِ، يقرأُ الكتبَ بعينينِ لا تكتفيانِ بالسّطورِ، بل تغوصانِ في ما وراءَ الحروفِ. كانَ يسألُ نفسَهُ أسئلةً كالبراكينِ: لماذا تتهاوى الممالكُ وهي في أوجِ عظمتِها؟ كيفَ تُولدُ الحضاراتُ من رحمِ البداوةِ، ثمّ تعودُ إلى التّرابِ؟ أينَ تكمنُ روحُ المجتمعاتِ: في قوّةِ السّيفِ، أم في متانةِ النّسيجِ الاجتماعيِّ؟ لم يكُنْ طالبَ علمٍ فحسب، بل كانَ فيلسوفَ التّاريخِ الّذي يرى في كلِّ حدثٍ ظاهرٍ عشراتِ الأحداثِ الخفيّةِ.
كبرَ، فاتّسعَ أفقُهُ كما تتّسعُ السّماءُ. دخلَ قصورَ الحُكّامِ، وعاشَ في دهاليزِ السّلطةِ، يراقبُ لعبةَ العروشِ بعينِ الثّعلبِ وقلبِ الحكيمِ. رأى كيفَ تُبنى الإمبراطوريّاتُ على أكتافِ “العصبيّة”، ثمّ تنهارُ حينَ تتحوّلُ القوّةُ إلى غرورٍ، والعدلُ إلى استبدادٍ. عرفَ أنَّ المجتمعاتَ كالكائناتِ: تولدُ، تشبُّ، تهرمُ، ثمّ تموتُ. لكنَّ موتَها ليس قدرًا محتومًا، بل نتيجةً حتميّةً لتفكّكِ روابطِها، وانحلالِ أخلاقِها، واستبدالِ المصلحةِ العامّةِ بالجشعِ الفرديِّ.
وفي عزلتِه، حيثُ لا صوتُ إلا حفيفَ الأوراقِ وهمسَ الأفكارِ، أبدعَ “المقدّمة”. لم تكُنْ مجرّدَ كتابٍ، بل كونًا موازيًا يُفسّرُ قوانينَ التّاريخِ. حوَّلَ الماضي إلى كائنٍ حيٍّ ينبضُ بالدّروسِ، وجعلَ من الأحداثِ نصوصًا تُقرأُ بينَ السّطورِ. أدركَ أنَّ الحضارةَ لا تسقطُ بفعلِ غزوٍ خارجيٍّ، بل عندما تتحوّلُ إلى قشرةٍ جميلةٍ فارغةٍ من الدّاخلِ.
في حواراتِه معَ العظماءِ، كانَ يزرعُ أسئلةً كالمصابيحِ:
قالَ لسلطانٍ متغطرسٍ:
“أيّها الأميرُ، الحجارةُ لا تحمي الممالكَ، بل تحميها قلوبُ العبادِ. إذا فسدَتِ القلوبُ، صارَ السّقفُ سقفًا من خشبِ الأوهامِ.”
وأجابَ عالمًا مغرورًا:
“الحقيقةُ كالنّورِ، لا تحتاجُ إلى صرخاتٍ لتُرى. والجاهلُ من ظنَّ أنَّ التّاريخَ يُكتبُ بالحبرِ فقط، لا بدمِ الضّميرِ.”
ومعَ تقلبِ الزّمانِ، لم يتلاشَ أثرُهُ. ظلَّت أفكارُهُ كالنّجومِ تُنيرُ دروبَ المفكّرينَ. كانَ صاحبَ رسالةٍ خالدةٍ: “التّاريخُ ليس سردًا للأحداثِ، بل تشريحٌ للرّوحِ الجماعيّةِ. ومَن أرادَ فهمَ المجتمعاتِ، فليبدأْ بفهمِ الإنسانِ.”
وفي غروبِ عمرِه، رأى العالمَ صفحةً بيضاءَ، لكنَّه عرفَ أنَّ كلَّ كلمةٍ تُكتبُ عليها قد تُغيرُ مصيرَ أممٍ. فهمَ أنَّ القوّةَ الحقيقيّةَ ليست في الجيوشِ، بل في “الوعي الجمعيِّ” الّذي يصنعُ الحضاراتِ أو يهدمُها.
ابن خلدون لم يكُنْ رجلَ ماضٍ، بل رجلَ مستقبلٍ وُلدَ قبلَ أوانِه. علّمنا أنَّ التّاريخَ مرآةُ النّفسِ الإنسانيّةِ، وأنَّ المجتمعاتَ تزهرُ أو تذبلُ بقدرِ ما تحملُ من قيمٍ. تركَ لنا مفتاحًا لفكِّّ شفراتِ الزّمنِ: “اقرأِ التّاريخَ كأنّك تقرأُ كتابَ نفسِك، وستعرفُ لماذا تقومُ الأممُ، ولماذا تسقطُ.”
وها هو ذا إرثُه اليومَ كالشّمسِ، لا تغيبُ. يُذكّرنا أنَّ الحضارةَ ليست أبراجًا شاهقةً، بل ضميرًا حيًّا، وأنَّ العمرانَ لا يُقاسُ بالحجارةِ، بل بالعدلِ، وبالرّوابطِ الّتي تُمسكُ البشرَ معًا كاللّآلئِ في عقدٍ واحدٍ.
ويظلُّ إرثُ ابن خلدون كنسيمٍ هادئٍ يمرُّ بينَ أزقّةِ العصورِ، يوقظُ الفكرَ ويحرّكُ الرّوحَ. لقد علّمنا أنَّ الإنسانَ ليس مجرّدَ شاهدٍ للتّاريخِ، بل صانعٌ له، أنَّ كلَّ فكرةٍ، وكلَّ تصرُّفٍ، مهما بدا صغيرًا أو هامشيًّا، يحملُ في طيّاتهِ بذورَ البناءِ أو الهدمِ. لقد جعلَ من “المقدّمة” مرآةً تعكسُ أبعادَ الحياةِ الاجتماعيّةِ والسّياسيّةِ والاقتصاديّةِ، لتصبحَ قراءةُ التّاريخِ رحلةً في فهمِ النّفسِ البشريّةِ، واكتشافِ القوى الخفيّةِ الّتي تُحرّكُ المجتمعاتِ وتبني الحضاراتِ. وعبرَ هذه الرّؤيةِ الشّاملة، صارَ التّاريخُ عنده كائنًا حيًّا، ينبضُ بالأحداثِ والدّررِ الخفيّةِ، يخطئُ ويصحّحُ، يُعلِّمُ ويُرشدُ، ويجعلُ كلَّ من يقرؤهُ يدركُ أنَّ سقوطَ الأممِ وصعودَها ليس صدفةً، بل نتيجةُ تراكماتٍ دقيقةٍ من الأخلاقِ والقيمِ والعلاقاتِ الاجتماعيّةِ. وهكذا، يظلُّ ابن خلدون مرشدًا لكلِّ من يسعى إلى معرفة سرِّ الحضاراتِ، لأنَّه كشفَ لنا أنَّ فهمَ الإنسانِ هو السّبيلُ الوحيدُ لفهمِ التّاريخِ، وأنَّ النّظرَ إلى المجتمعاتِ بعينٍ واعيةٍ وقلبٍ صافٍ هو الّذي يمنحنا القوّةَ لنقرأَ المستقبلَ بعمقٍ وحكمةٍ، ونصنعَ عالمًا أكثر توازنًا وعدلاً، مستلهمينَ من عبقريّتهِ قدرةُ الرّوحِ على تحويلِ المعرفةِ إلى حياةٍ نابضةٍ ووعيٍ حيٍّ يُضيء دروبَ الأجيالِ القادمةِ.
فهل نقرأُ التّاريخَ كما قرأَهُ هو؟ أم نظلُّ نراهُ سطورًا ميتةً، لا قلبَ ينبضُ فيها؟






































