أحمد الناصر يكتب قراءة تحليلية في نصّ حين اغتال الصَّمت كبد الحقيقة للكاتبة دعاء محمود
حين اغتال الصَّمت كبد الحقيقة
في إحدى المستشفيات العقليَّة المهجورة منذ سنوات؛ يعجُّ بمئات المرضى الميؤوس من حالتهم، قرَّرت الحكومة إعادة ترميم المباني لاستغلالها بالشَّكل الأمثل.
بعد عمل شاقٍّ طوال أيام يتمُّ تنظيف الحديقة الخلفيّة لأحد المباني؛ حديقة مأهولة بالأشجار العتيقة العالية والنَّباتات الطِّبية المختلفة إذ فوجئ الجميع بهيكل عظميٍّ مُلقى على الأرض بين الأشجار.
بعد اجتماع القادة من كافَّة القيادات للبحث عن صاحب الجثة، تمَّ فتح الملفات، التَّحري، السُّؤال، قامت كلّ الجهات على قدم وساق بثورة ؛ لمعرفة الحقيقة، كتحليل الحمض النَّووي، وتقديم تقارير الطِّبِّ الشَّرعي.
فوجئ المحقق أنّه هيكل لسيّدة تبلغ الأربعين من العمر، قد وُضعت في المستشفى العقليّ على يد أخيها إذ تنتابها حالات شديدة الخطورة.
تساؤلات عارمة ضربت رأس المحقّق؛ كيف ماتت؟! لماذا تركت هكذا حتَّى تحلّلت؟! ألم يسأل عنها أخوها؟!
وقد أصدر المحقّق القرار بالتَّحقيق مع المسؤولين
لمعرفة الحقيقة.
جمع الخيوط، نقَّح الأكاذيب، رفض المتناقضات العقليّة؛ فإذا بكبد الحقيقة يظهر جليًّا أمامه؛ هي الأخت الكبرى لذلك العاقُّ الَّذي طمع في الميراث فألقاها في هذه المستشفى؛ الَّتي تُعرف بالإهمال والفساد بالاتفاق مع أحد الأطباء.
تعذّبت بجلسات الكهرباء كلَّما نطقت، أيُّ طلب يقابل بجلسة مفزعة من العذاب، أيُّ كلمة منها في اتّجاه الحقيقة؛ تُحبس على إثرها، وتنال ويلات القهر، آلام جسديَّة نفسيَّة غير محتملة؛ اختارت طوعًا الصَّمت، اعتادت أن تقتاتَ من فُتات الطَّعام، لجأت لتلك الحديقة النّائية في المستشفى؛ لتبتعد عن الوجوه كافَّّة،
تحيا يومها على أمل الموت، تسرق بعض الكتب من مكتبة المستشفى؛ وتجلس تلتهم الصّفحات، اتخذت من الأشجار الكثيفة مأوًى لها؛ ارتاح الأطبّاء من ثرثرتها ؛ خاصّةً الّذين رفضوا تصديقها؛ ولم يبحثوا عنها.
اختارت الصَّمت طوعًا لتشفى من ويلات الكلام وأفعال النَّاس.
عشقت الكلاب الضَّارية المنتشرة حول سور الحديقة، تعاملت معهم برحمة؛ فتركوها تنام بينهم، حموها من بني جلدتها، كانوا أرحم عليها من بني الإنسان.
اغتال صمتها كبد الحقيقة؛ ففضح بعد سنوات من رحيلها ما أخفته قهرًا لسنوات.
اختارت الصَّمت كمحاولة أخيرة؛ لتخبر النَّاس ما لم يصدّقوه بالكلمات.
كان صمتها سهامًا اخترقت حواجز الأسماع؛ لتظهر الحقيقة، على مرأى ومسمع من كلِّ الجهّات.
ويأمر المحقّق بضبط كلّ المشاركين في موتها وتقديمهم للعدالة.
الكاتبة الصَّحفيه/ دعاء محمود
مصر
دعاءقلب
القراءة التحليلية
الكاتب والناقد
أحمد الناصر الحمدو
هذا النص ليس مجرد سرد، بل “صرخة مكتومة خرجت من بين ضلوع الصمت”.
كأنّ (دعاء محمود) كتبت بمدادٍ من وجعٍ إنسانيٍّ خالص،
عن امرأةٍ لم تُهزم، بل “صمتت لتُقاوم، وماتت لتُفضح ما لم يُقال حيًّا”.
في عالمٍ يُكافئ الصراخ ويُعاقب الهدوء،
اختارت تلك المرأة أن تُقاوم بصمت،
لا لأنها ضعيفة، بل لأنّ الكلام كان يُعذّبها،
وكانت كلّ كلمة تُنطق تُقابل بصاعقة كهرباء،
فآثرت أن تُخبّئ الحقيقة في صدرها،
وتترك للزمن أن يُنطقها حين لا يبقى أحدٌ ليُكذّبها.
*نفسيًا: هذا النموذج يُجسّد ما يُعرف بـ”الانسحاب الدفاعي”،
حين تلجأ النفس إلى الصمت كآلية للبقاء،
لا هروبًا من الواقع، بل حمايةً للذات من مزيدٍ من الانتهاك.
*سلوكيًا: كانت تصرّفاتها انعكاسًا لوعيٍ داخليٍّ عميق؛
الابتعاد عن البشر، التقرّب من الحيوانات،
القراءة، التأمل، الانزواء في الطبيعة إلخ
كلّها محاولات لإعادة بناء الذات في بيئة لا تُعاقبها على وجودها.
*تحليليًا: هذه القصة تُفضح منظومةً كاملة من الفساد،
حيث يُستخدم المرض النفسي كأداة قمع،
وتُغلق الملفات لا لأنّها انتهت، بل لأنّها أُسكتت عمدًا.
النص يُعيد تعريف الصمت:
ليس ضعفًا، بل سلاحًا،
ليس غيابًا، بل حضورًا مؤجلًا،
ليس نهاية، بل بداية لكشف الحقيقة.
🔴 الرسالة الأعمق:
> ليست كلّ الجثث ضحايا موتٍ طبيعي،
> بعضهم ضحايا صمتٍ قسريّ،
> وبعضهم شهداء الحقيقة التي لم تُصدّق إلا بعد فوات الأوان.
صمتٌ حملتُ، وفيهِ ألفُ حكايةٍ
كلمات الكاتب أحمد الناصر الحمدو
والقهرُ يسكنُني، ويُشعلُ نارَهُ
قالوا: جنونٌ حينَ نطقتُ وجعَهمُ
فأخرسوني، كي يُواروا عارَهُ
ألقاني أخي، لا لشفاءِ، بل طمعًا
في ميراثِ قلبٍ لم يُساومْ دارَهُ
فاخترتُ صمتي، لا لأنّي عاجزةٌ
لكنّهُ درعي، وصونُ وقارَهُ
حتى إذا ما متُّ، نطقتُ بصمتي
فانكشفتْ وجوهُ الخائنينَ جهارَهُ
احمد الناصر الحمدو






































