بقلم … ابتهال عبد الوهاب
من النّص إلى المعنى …
القراءة، في جوهرها، ليست طقسا ميكانيكيًّا لابتلاع الحروف، ولا هي عدٌّ بارد لصفحات الكتب كما تعدّ النّقود في جيب التّاجر. إنّ القراءة الّتي لا تصحبها شجاعة التّفكير، أشبه ببحّار يجلس على شاطئ البحر يحدّق في الموج، ولا يركب المركب
القراءة فعل استقبال والتّفكير فعل ولادة. من يكتفي بالأوّل يظلّ أجيرا في حقول الآخرين، يحصد ما زرعوه، ويخزّن ما جنوه. النّصّ ليس غاية، بل جسر إلى ما وراءه؛ وحروفه ليست أوتادا لتثبيت العقل، بل جسورا للعبور إلى ضفاف المعنى.
الكتب لا تهبنا العقول بل تمنحنا مفاتيح أبوابها. والمفاتيح، بلا يد جريئة تديرها، تبقى حديدا ساكنا في الجيب. إنّ النّصوص مهما كانت عميقة، إذا ظلّت أسيرة الحفظ الأعمى، فهي كالمرايا المغبرة: تعكس شيئا مشوشا لا ملامح فيه.
الشّجاعة الفكريّة هي أن تتجاوز حدود الحروف إلى فضاء المعنى، أن تعيد طرح السّؤال حتّى على المسلمات، أن تخرج من قطيع المردّدين إلى وحدة المتأمّلين. أن تفهم أنّ الحقيقة ليست صندوقا مغلقا سلّمه لك السّابقون، بل أفقا يتّسع كلّما تقدّمت نحوه
العقل الّذي لا يغامر في التّفكير الحرّ، يبقى كصندوق تخزين ممتلئ بالغبار يستدعى وقت الحاجة لإخراج محفوظات قديمة، ثم يعاد إغلاقه. أمّا العقل المفكر، فهو نهر، لا يعود أبدًا إلى النّقطة ذاتها، لأنّ كلّ فكرة جديدة تغيّر مجراه وتوسّع ضفافه.
العقل الّذي لا يغامر في الخروج من النّصّ، محكوم أن يبقى دائرة مغلقة، يدور فيها الفكر على نفسه حتّى يتلاشى. أمّا الشّجاعة الفكريّة، فهي أن تحطّم الجدار الأخير بينك وبين السّؤال، أن تضع يدك في المجهول بثقة من يبحث عن النّور لا من يخشى الظّلام.
إنّ الكتاب الّذي لا يوقظ فيك رعشة السّؤال، كتاب ينام في يديك كما ينام الحجر في قاع النّهر، لا حياة فيه ولا ماء.
الحياة الفكريّة تبدأ حين تنتهي القراءة… حين ترفع عينيك عن الصّفحة، وتبدأ رحلتك في أعماق ذاتك، وفي أسئلة الكون الّتي لا تنتهي.
وفي وجهة نظري كلّ قراءة لا تلد سؤالا، هي قراءة لم تتمَّ. وكلّ عقل لا يعرف الشّكّ، هو عقل لم يعرف التّفكير.
بقلم … ابتهال عبد الوهاب






































