بقلم … للاإيمان الشباني
رأيي في بيتين من شعر أمير الشّعراء وشيخ المفكّرين حميد بركي
ء
ما عادَ يُفرِحُني شيءٌ، ولا عادَ
فِي الفَقْدِ يُحزِنُني إنْ غابَ أو عادَ
كأنَّ قَوْمَ ثمودٍ قد أتَوا عادًا
يَستَعرِضونَ عَبيدَ الدَّهرِ أسيادَا
من قال إن الشّعر بدأ في كندة وانتهى بكندة، وكان يقصد امرأ القيس والمتنبي، فقد غفل عن كندة أخرى لا تقل نبضًا ولا عمقًا، كندة المغرب الّتي ينطق فيها الشّعر بصوت حميد بركي، حيث تتجدّد الرّوح وتُبعث المعاني من قوّة النّبر اللّفظي وسياق آخر لتصنع مجدًا لا يُقارن، لا يُكرّر، لا يُنسى.
في هذين البيتين تنبعث نبرة قد تخالف المتنبّي، وهي تشبهه بوصفها محاكاة، بوصفها امتدادًا لتلك الرّوح العاتية الّتي جمعت بين الذّكاء العاطفيّ والفكر الثّائر. يبدأ الشّاعر بكسرٍ صامت لعاطفة اعتاد النّاس تمجيدها، فلا الفرح يغرّ، ولا الحزن يستدرّ دمعة، فينقلنا إلى منطق جديد تتساوى فيه الغيابات والعودات، وكأنّ العالم فقد القدرة على التّأثير، أو أنّ الذّات أصبحت أرفع من أن يُطبع عليها أثرٌ إلّا من المعنى.
ثم تأتي الصّورة الثّانية فريدة في بنائها، مذهلة في رمزيّتها، إذ يجعل من قوم ثمود الّذين هلكوا طغيانًا زائرين لعاد الّذين بادوا تكبّرًا في مشهد تراجيدي ساخر، حيث عبيد الدّهر يستعرضون سادة الأمس. انقلاب مرعب للمقاييس، كأنّ الزّمان فقد عدالته، وكأنّ القيم أصبحت ملهاة، وهي صورة لا يملك أدواتها إلّا من تشرّب التّاريخ، وتأمّل الرّموز، وعرف كيف يصنع منها أدوات نقد وجوديّ، وقد أحسست برعشة وأنا أقرأ البيتين على صفحته
وكأنّه لا يكتب كما يكتب غيره، لا يُبكيك شفقة، إنّما يوقظك دهشة. يستعير من المهلهل صرخته، ومن امرئ القيس جسارته، ومن الأعشى عمق تأمّله، ثمّ يصنع من كلّ ذلك صوته الخاص، القويّ، الحيّ. لا يُعيد ما قيل، وإنّما يقول ما لم يُتوقّع. كلّ بيت عنده يقف كجبل لا ينهار، وكلّ صورة ترتدي فكرًا لا يبلى.
إنّه لا يتّكئ على المجاز وحده، ولا على الصّنعة فقط، وإنّما ينبع من حكمةٍ خَبِرَت الحياة، وتطهّرت بالمعاناة، فخرجت لتضع الشّعر في موضعه الحقيقي: أن يكون وعيًا، أن يكون ثورة، أن يكون مرآة يطالع فيها النّاس أنفسهم فلا يعرفون مَن فيهم الشّاعر، ومَن فيهم المتلقّي.
كندة حميد بركي ليست قبيلة، إنّها مجد شعريّ وُلد من أرضٍ كانت تصغي طويلاً، ثمّ نطقت بما يُدهش التّاريخ، وأتحدّى أن يأتي غيره بمثلهما
بقلم … للاإيمان الشباني






































