لعبَةُ القطّّ والفأر: حكايةٌ من بيتٍ لا يسكنهُ أحدٌ ..
بقلم : سلمى صوفاناتي
كانَ البيتُ صامتًا، كما لو أنَّ الزمنَ علَّقَ ساعاتِهِ على عتبتهِ، وابتلعَ أنفاسَهُ في أوّلِ خطوةٍ داخلهِ. لا مالكٌ، لا زائرٌ، لا ذكرى واضحةٌ لبدايةِ الحكايةِ. ومع ذلكَ، فثمّةُ شيءٌ يتحرّكُ في الدّاخلِ — صراعٌ لا يهدأُ، ولا يُحسمُ.
في ركنِ المطبخِ، جلسَ القطّ العجوزُ، كثيفُ الوبرِ، متخمُ النّظراتِ، يُمرّرُ مخالبهُ على البلاطِ الباردِ كما لو كانَ يصقلُ بها تاريخهُ. وإلى جانبهِ، حقيبةٌ ثقيلةٌ، تتدلّى منها أسلاكٌ وأدواتٌ تشبهُ أجهزةَ المراقبةِ… أو أدواتُ سردِ روايةٍ.
داخلَ الحقيبةِ، خرائطُ لبلادٍ لا وجودَ لها، اتفاقياتٌ لم تُوقَّعْ قطُّ، ومصائدُ تُشبهُ البياناتِ الصّحفيّةِ أكثرَ ممّا تُشبهُ أدواتِ صيدٍ.
ظهرَ الفأرُ، هادئًا كمن يعرفُ أنّ ضجيجهُ لا يُسمَعُ، ونظرَ إلى القطّ نظرةً تفيضُ بأكثرَ من نجاةٍ:
“أنت لا تطاردني لأنّك جائعٌ… بل لأنّك لا تملك تعريفًا لنفسِك بدوني.”
القطّ لم يردَّ. لا حاجةَ للكلامِ حين تكونُ الفريسةُ هي من تنطقُ بالحقائقِ. اكتفى بتدوير الحقيبةِ، وأخرجَ مصيدةً جديدةً، لامعةً، مصقولةً كمشروعِ قرارٍ، ووضع فيها جبنةً مستطيلةَ الشّكلِ، صفراءَ، لكنّها ليست جبنةً — بل شعارٌ مموّهٌ، وهمٌ مغلّفٌ بالبلاستيكِ، يصلحُ للعرضِ أكثرَ من الإلتهامِ.
دارَ الفأرُ حولها كمن يطوفُ حولَ حطامِ سرديّةٍ. قال همسًا لا يخرجُ من فمه بل من قلبِ الغرفةِ:
“الجبنةُ ليست طعامًا… إنّها شعارٌ. علامةٌ ترميزٌ. استعارةٌ لكيفِ يُعادُ إنتاجُ السّيطرةِ عبرَ ما يُسمّى بـ ‘الإغراءِ’.”
من خلفِ السّتارةِ، فتحَ الكلبُ العجوزُ عينًا وأبقى الأخرى نائمةً. لم يكن منخرطًا في اللّعبةِ، ولم يُرد لها أن تنتهي. كلُّ ما يهمّهُ أن يبقى إيقاعُ الضّجيجِ في حدودهِ المسموحِ بها، كي لا يختلّ نظامُ نومهِ العالميِّ.
استمرت اللّعبةُ.
ركض القطّ.
قفز الفأرُ.
سقطت الجبنةُ.
لكن لم يلتقطها أحدٌ.
الجدرانُ، وقد أكلها الصّمتُ، لم تعد شاهدةً بل جزءًا من المشهدِ. والسّقفُ، كلّ مساءٍ، يقنعُ نفسهُ أنّ هذه الحركةَ المستمرةَ ليست عبثًا… بل شكلٌ من أشكالِ النّظامِ الكونيِّ المُنهَكِ، حيث لا يعني التّقدّمُ شيئًا سوى اتساعِ دوّامةِ المراوغةِ.
ثم نطقَ الفأرُ، من حيث لا يتوقّعُ الصّوتُ أن يُحدِث صدى:
“ماذا لو توقّفت؟ لو قرّرتُ ألّا أهرب؟ أن أبقى في جحري حتّى تفقدَ حقيبتك معناها؟ هل ستدرك عندها أنّ هيمنتك كانت طيفًا انعكس من خوفي؟ من قراري بالمشاركةِ في لعبةٍ لم نُسأل عنها؟”
لكنّ القطَّ لم يسمعْ.
أو تظاهرَ بأنّه لا يسمعُ.
أو أنّه — ببساطة — نسي كيف يُصغي.
فهو لا يملك رفاهيةَ التّأمّلِ.
ولا وقتًا للفهمِ.
كلّ ما يعرفهُ: أنَّ عليه أن يركض.
أن يواصل الرّكض.
نهايةٌ مفتوحة…
في بيتٍ لا يسكنهُ أحدٌ، تظلُّ المطاردةُ دائرةً، لا لأنّ أحدًا يريدها، بل لأن لا أحد يعرف كيف يُنهيها دون أن يُسقِط المعنى الّذي بُني كلُّ شيءٍ على وهمه.
لعلّ أبطال هذه الحكايةِ ليسوا إلّا أقنعةً لميتافيزيقيا الهيمنةِ والمراوغةِ، حيث لا يكون الصّراعُ سعيًا نحو الحسمِ، بل تكريسًا لحاجتنا المزمنةِ إلى استمرارِ اللّعبةِ ذاتها.
طالما ثمّة فريسةٌ تقفزُ، فالصّياد سيظلّ يعدو… لا لأنّه يريدها، بل لأنّه لا يعرف كيف يتوقّف دون أن يُصاب بالفراغ —
ذلك الفراغ الّذي يكشفُ أنّ جوهرَ السّيطرةِ ليس في قوّتها، بل في خوفها من السّكونِ.






































