(عَمَلِيَّةُ إِيلَات… كَمَا لَمْ يَكْتُبْهَا المُؤَرِّخُونَ)
بقلم : سلمى صوفاناتي
فِي مَدِينَةٍ تَرْقُدُ عَلَى شَفَا الخَيْبَةِ، حِينَ كَانَ الوَطَنُ يَمْشِي مُكَبَّلًا بِظِلِّ الهَزِيمَةِ، وَحِينَ بَدَا أَنَّ الزَّمَنَ قَدْ تَعَطَّلَ بَيْنَ ضَفَّتَيِ القَنَاةِ، وَارْتَخَتِ الأَعْنَاقُ فِي أَزِقَّةِ القَاهِرَةِ المُرْهَقَةِ… فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ تَحْدِيدًا، وُلِدَتْ قِصَّةٌ.
لَيْسَتْ قِصَّةَ بُطُولَاتٍ تُرْوَى عَلَى أَلْسِنَةِ المُذِيعِينَ، وَلَا مُغَامَرَةً يُطَرِّزُهَا الخَيَالُ السِّينِمَائِيُّ، بَلْ فَصْلًا مِنْ رِوَايَةٍ طَوِيلَةٍ كَتَبَهَا الرِّجَالُ فِي دَفْتَرِ الأَعْمَاقِ، حَيْثُ لَا يَصِلُ ضَوْءُ الشَّمْسِ، وَلَا صَوْتُ الإِعْلَامِ.
– ٱلضَّرْبَةُ ٱلْأُولَى… حِينَ تَآمَرَتِ ٱلْجُغْرَافْيَا عَلَى ٱلصَّمْتِ ..
فِي لَيْلٍ لَا يُشْبِهُ اللَّيَالِي، وَبَيْنَ ضَفَّتَيْنِ لَا تَزَالَانِ تَنْزِفَانِ مِنْ نَكْسَةِ الأَيَّامِ السِّتَّةِ، وَقَفَ رَجُلٌ يُرَتِّبُ الصَّمْتَ كَمَا يُرَتِّبُ المُقَاتِلُ رَصَاصَاتِهِ. لَمْ يَكُنْ يَطْلُبُ حَرْبًا، وَلَا هُدْنَةً، بَلْ كَانَ يَطْلُبُ كَرَامَةً تُعَادُ إِلَى قَلْبِ مِصْرَ مِنْ بَابِ البَحْرِ.
فِي الخَامِسِ مِنْ يُوْلْيُو، عَامَ تِسْعَةٍ وَسِتِّينَ، تَحَرَّكَتِ الزَّوَارِقُ الصَّغِيرَةُ مِنْ أَحَدِ خِلْجَانِ الجَنُوبِ، لَا تَحْمِلُ رَايَاتٍ وَلَا تُنْشِدُ نَشِيدًا… بَلْ تَمْخُرُ المَاءَ كَأَنَّهَا أَطْيَافٌ مِنْ زَمَنٍ قَدِيمٍ، خَرَجَتْ مِنْ بَرْدِيَّةٍ فِرْعَوْنِيَّةٍ لِتُعِيدَ إِلَى هَذَا الزَّمَانِ لَعْنَتَهُ وَنُبُوءَتَهُ.
سِتَّةُ رِجَالٍ لَا أَكْثَرَ، كُلٌّ مِنْهُمْ يَحْمِلُ عَلَى كَتِفِهِ صَمْتَ أُمَّةٍ، وَفِي صَدْرِهِ وَصِيَّةَ أَبٍ سَقَطَ فِي السُّوَيْسِ أَوْ الإِسْمَاعِيلِيَّةِ أَوْ عَلَى الضِّفَّةِ الشَّرْقِيَّةِ لِلْقَنَاةِ.
وُجُوهٌ نَحِيلَةٌ لَا تُخِيفُ، وَلَكِنْ خَلْفَ النَّظَرَاتِ كَانَتْ هُنَاكَ قُوَّةٌ لَا يَرَاهَا إِلَّا البَحْرُ.
– ٱلْخُطَّةُ… حَيْثُ ٱلْعَقْلُ يُطْلِقُ ٱلرَّصَاصَ ..
مُنْذُ شُهُورٍ، جَلَسَ ضُبَّاطُ البَحْرِيَّةِ المِصْرِيَّةِ، لَا فِي قَاعَةِ اجْتِمَاعَاتٍ مُكَيَّفَةٍ، بَلْ فِي صَمْتٍ مَخْنُوقٍ، يُرَاجِعُونَ خَرَائِطَ مِينَاءِ العَدُوِّ كَمَا يُرَاجِعُ الفِدَائِيُّ مَلَامِحَ الهَدَفِ فِي الحُلْمِ.
لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ أَوَامِرُ، بَلْ عَزِيمَةٌ، وَلَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ قَائِدٌ يَصْرُخُ، بَلْ ضَوْءٌ خَافِتٌ يَنْبُضُ فَوْقَ خَرِيطَةِ إِيلَات.
“بِيتْ شِيفَعْ”، قَالَ أَحَدُهُمْ… السَّفِينَةُ الَّتِي تَتَبَخْتَرُ فِي المِينَاءِ كَمَا تَتَبَخْتَرُ أُسْطُورَةُ النَّصْرِ فِي عَقْلِ عَدُوٍّ لَا يُوقِنُ بِالخَوْفِ.
ثُمَّ أَشَارَ آخَرُ: “وَنَاقِلَةُ الوُقُودِ تِلْكَ… لِنَدَعَهَا تَصِيرُ رَمَادًا”.
فِي الجَنُوبِ، عَلَى أَرْضٍ صَخْرِيَّةٍ مَلْسَاءَ، بُنِيَ مُجَسَّمٌ لِإِيلَاتَ، كَأَنَّهُمْ يَصْنَعُونَ مُصَغَّرًا لِلْمَصِيرِ. وَعَلَيْهِ تَدَرَّبَ الرِّجَالُ، لَا بِالحَمَاسِ، بَلْ بِالصَّبْرِ، كَمَا يَتَعَلَّمُ النَّاسِكُ تَرْتِيبَ الدُّعَاءِ فِي سَاعَةِ الفَجْرِ.
– ٱلنُّزُولُ… لَا صَوْتَ إِلَّا نَبْضُ ٱلْأَعْمَاقِ ..
ٱقْتَرَبُوا مِنَ الهَدَفِ بَعْدَ سَاعَاتٍ مِنَ السِّبَاحَةِ الصَّامِتَةِ، المِيَاهُ تَزْدَادُ بُرُودَةً، وَالظُّلْمَةُ تَتَرَاكَمُ، وَالأَسْلَاكُ تَلُوحُ كَسِيَاطٍ مِنْ نَارٍ.
وَلَكِنَّ العُيُونَ لَا تَنْظُرُ إِلَى الخَلْفِ.
كَانَ البَحْرُ حِينَهَا شَرِيكًا فِي الجَرِيمَةِ، يَمْحُو آثَارَ الأَقْدَامِ، وَيَدْفِنُ مَا لَا يُقَالُ.
ثَبَّتُوا الأَلْغَامَ كَمَا تُثَبَّتُ الحَقِيقَةُ فِي صَدْرِ مَنْ لَا يُصَدِّقُ، وَغَادَرُوا دُونَ أَنْ يَتْرُكُوا أَثَرًا…
وَكَأَنَّهُمْ نَسْمَةٌ عَبَرَتِ التَّارِيخَ، وَتَرَكْتْهُ يَرْتَجِفُ.
وما إنْ لامستِ الألغامُ أحشاءَ الباخرتَين، حتّى ارتجفَ الميناءُ بأكملِه، كأنّه قلبُ مدينةٍ مذعورةٍ أيقظَها زلزالُ المفاجأةِ.
دوّى الانفجارُ في جوفِ البحرِ، ثمّ تسلّلَ إلى البرِّ، فتطايرَ زجاجُ النّوافذِ، وتكسّرتِ الأسطورةُ الإسرائيليةُ على صخرةِ الكتمانِ المصريِّ، وغاصَتِ الغطرسةُ في غياهبِ الدّهشة.
على الرّصيفِ وقفَ الجنودُ في ذهولٍ يشبهُ حيرةَ الموتى الّذين لا يدرون ما إذا كانوا قد غادروا الحياةَ أم ما يزالون فيها.
لم يتوقّعوا أنّ القادمين من الغربِ، حيثُ القناةُ المكسورةُ القلبِ، ما يزالونَ قادرينَ على الضّربِ والردِّ والإيلامِ، بل وقادرينَ على التّسلّلِ كالخيالِ إلى خاصرتِهم العاريةِ.
-الانسحاب: صمتُ البطولة ..
في الوقتِ الّذي كانت فيهِ المخابراتُ الإسرائيليّةُ تبحثُ عن خيطٍ واحدٍ يربطُ بين الميناءِ والانفجارِ، كان الأبطالُ ينسحبونَ تحتَ جنحِ الليلِ في صمتٍ أبلغَ من القصائدِ، يحملونَ في أعينِهم ضوءَ النّصرِ وفي قلوبِهم طمأنينةَ الّذينَ فعلوا ما يجبُ فعلهُ ومضَوا.
عادوا إلى القاعدةِ دونَ شهيدٍ واحدٍ، ولا جريحٍ واحدٍ، فقط قلوبٌ ترفرفُ بالعزِّ، وصدورٌ تعتصرُ النّشوةَ كأنّها تتنفّسُ الحرّيّةَ من جديد.
استقبلتهم القيادةُ بنظراتٍ يغمرُها الإجلالُ، فهؤلاءِ لم يعودوا مجرّدَ جنودٍ، بل صاروا رموزًا، شواهدَ حيّةً على أنّ المهانةَ لا تليقُ بمصرَ، وأنّ البحرَ ما يزالُ يُنجبُ من يحرُسُ كرامتَه.
– ردّ الفعل: صرخةُ ذهول !
في تلّ أبيبَ، كان الجنرالاتُ الإسرائيليّونَ يفتّشونَ الخرائطَ، ويستنطقونَ الضّبّاطَ، ويتهامسونَ في أروقةِ الشّكِّّ: “كيفَ حدثَ هذا؟ ومن أينَ جاءوا؟”
لم يتجرّؤوا على إعلانِ الخسائرِ فورًا، لكنّ الدّخانَ لا يختبئُ طويلًا، فأعلنتِ الإذاعاتُ بعد يومينِ عن “اعتداءٍ تخريبيٍّ” أتى على سفينتينِ حربيتينِ في ميناءِ إيلات، وأغرقَ جزءًا من الكبرياءِ العسكريّ.
أمّا في القاهرةِ، فقد سُرّبَتِ الأخبارُ إلى الصّحفِ بنبرةٍ توحي ولا تصرّح، وتُلمّح ولا تفصح، فالعمليةُ ما تزالُ سرًّا من أسرارِ الصّدورِ الشّريفةِ.
الرّمز والدّلالة: حين يتكلّم البحرُ باسم الوطن
لم تكنِ العمليّةُ مجرّدَ عملٍ عسكريٍّ فحسب، بل كانت بيانًا تاريخيًّا بقلمِ البحرِ، يُعلنُ أنّ مصرَ لا تموتُ، وأنّ أبناءَها، وإنْ صمتوا، فهم يفكّرون، وإنْ تواروا، فهم يُخطّطون، وإنْ انكسروا، فهم يُصلحونَ ما انكسرَ بالدًمِ والعبقريةِ.
لقد هزّت الضّربةُ ميناءً، لكنّها حرّكت ضميرَ أمةٍ، ورفعت الرأسَ العربيَّ من ركامِ الهزيمةِ إلى صهوةِ الكرامة.
– ختام: صدى المجدِ في قلبِ الأعماق ..
تُروى الحكايةُ اليومَ، لا كفيلمٍ سينمائيٍّ بل كمرآةٍ لزمنٍ كانَ فيهِ الجنديُّ المصريُّ لا يملكُ أكثرَ من عزمِه وقلبِه وبدلةِ الغوصِ، لكنّه واجهَ أسطولًا يزهو بالتّقنيّةِ والدّعمِ الدّوليِّ، فغلبهُ.
ذلكَ لأنّ معركةَ الكرامةِ لا تحتاجُ إلى كثرةِ السّلاحِ بقدرِ ما تحتاجُ إلى كثافةِ الإيمان.
وما زالَ البحرُ يهمسُ في أُذنِ التّاريخِ: هنا مرّ رجالٌ من مصر… رفعوا رأسَها تحتَ الماءِ.






































