سارِي عَزَّام .. حِينَ يَنطِقُ العَقلُ قَبْلَ الحُرُوفِ ..
بقلم : سلمى صوفاناتي
حينَ تُولَدُ العَظَمَةُ في جَسَدٍ صَغِيرٍ، لا يَملِكُ مِن أَدَوَاتِ التَّعبِيرِ سِوَى عَينَيهِ المُتَّقِدَتَينِ وَذَاكِرَتِهِ الَّتِي تَحِيكُ المُعجِزَاتِ، نُدرِكُ أَنَّ العَبقَرِيَّةَ لا تَخضَعُ لِقَوَاعِدِ النُّمُوِّ، وَلَا تَتَقَيَّدُ بِأَعرَافِ العُمرِ.
إِنَّهُ سَارِي عَزَّام، لَيسَ طِفلًا عَلَى هَامِشِ الحِكَايَةِ، بَل هُوَ الحِكَايَةُ ذَاتُهَا؛ مُعَادَلَةٌ إِنسَانِيَّةٌ استِثنَائِيَّةٌ كُتِبَ عَلَى هَامِشِهَا: “مُتَلَازِمَةُ التَّوحُّدِ”، لَكِنَّهَا سُرعَانَ مَا مَزَّقَت وَصمَةَ التَّشخِيصِ، وَتَجَاوَزَت مَعَانِي النَّقصِ، لِتَرتَقِيَ إِلَى ضِفَافِ الإِعجَازِ.
فِي عَالَمٍ اعتَدنَا فِيهِ أَن يُقَاسَ الذَّكَاءُ بِالشَّهَادَاتِ، خَرَجَ عَلَينَا هَذَا الفَتَى مِن رَحِمِ النُّزُوحِ وَالمُعَانَاةِ، وَفِي يَدِهِ مِصبَاحٌ مِن نُورٍ، يَقرَأُ بِهِ آيَاتِ الكَونِ بِلُغَاتٍ شَتَّى، وَيَنكُشُ فِي الذَّاكِرَةِ سُوَرًا مِن القُرآنِ، وَيُخَاطِبُ العَوَالِمَ بِلُغَةِ المُوسِيقَى وَالبَرمَجَةِ، وَالهَندَسَةِ وَالفِيزِيَاءِ، بَل وَيَتَوَغَّلُ فِي مَتَاهَاتِ اللُّغَاتِ القَدِيمَةِ وَالحُرُوفِ المَيِّتَةِ، وَكَأَنَّ الزَّمَنَ قَدِ اختَارَ أَن يُجَسِّدَ بَعضَ أَسرَارِهِ فِيهِ.
هُوَ طِفلٌ، لَكِنَّهُ لا يَحبُو نَحوَ المَعنَى، بَل يُسَابِقُهُ.
لَا يَحتَاجُ إِلَى مُعَلِّمٍ بِقَدرِ حَاجَتِهِ إِلَى مَن يُؤمِنُ أَنَّ الرُّوحَ تُنجِبُ عُلَمَاءَ، وَأَنَّ العَبقَرِيَّةَ قَد تَسكُنُ فِي قَلبِ مَن تَغِيبُ عَنهُم “المَهَارَاتُ الاِجتِمَاعِيَّةُ”.
هُوَ لَيسَ عَبقَرِيًّا فَقَط، بَل نُسخَةٌ تَجرِيبِيَّةٌ لِنَسلٍ قَادِمٍ، قَد لَا تَفهَمُهُ هَذِهِ الأَرضُ بَعدُ.
وَفِي هَذَا الحِوَارِ، لَا نَقتَرِبُ مِن “حَالَةٍ طِبِّيَّةٍ” وَلَا مِن “مَوهِبَةٍ نَادِرَةٍ”، بَل نَطرُقُ أَبوَابًا عَتِيقَةً مِن أَسئِلَةِ الوُجُودِ:
مَا حُدُودُ الطَّاقَةِ الكَامِنَةِ فِي الكَائِنِ الإِنسَانِيِّ؟
هَلِ العَبقَرِيَّةُ نِعمَةٌ أَم عُزلَةٌ؟
هَل يَكفِي الذَّكَاءُ لِيَصِيرَ الإِنسَانُ عَظِيمًا، أَم لَا بُدَّ مِن وَطَنٍ يَحتَضِنُهُ، وَعَينٍ لَا تَخشَى ضَوءَهُ؟
فِي حَضرَةِ سَارِي عَزَّام، نَحنُ لَا نُجرِي حِوَارًا، بَل نَستَمِعُ لِأَحَدِ أَجوِبَةِ الطَّبِيعَةِ حِينَ تَقَرَّرُ أَن تَكتُبَ الشِّعرَ بِلُغَةِ الوِرَاثَةِ، وَأَن تُصُوغَ المَعرِفَةَ فِي هَيئَةِ طِفلٍ …
س١: ساري، كيف يَصِفُ طفلٌ في الثامنةِ من عمرِهِ نفسَهُ حين يُقالُ له: “أنتَ أينشتاينُ سوريا”؟
أنا لا أعيشُ في تشبيهٍ، بل في تجربةٍ.
قد يكونُ أينشتاينُ فكَّرَ بسرعةِ الضوءِ، لكنَّني أُحاوِلُ أن أَفهَمَ كيفَ يُولَدُ الضوءُ نفسُهُ من الفكرةِ.
لا أُريدُ أن أكونَ نُسخةً من أحدٍ، بل أَبحثُ عن لُغتي الخاصّةِ، حتّى وإن كانت مَزيجًا من الأوغاريتيةِ والفيزياءِ النَّوويّةِ.
س٢: متى أدرَكتَ أنَّ ما يحدُثُ في عقلِكَ مُختلِفٌ عمّا يحدُثُ في عُقولِ الآخرينَ من عُمرِكَ؟
حينَ كنتُ في عامي الثاني، قرأتُ القُرآنَ الكريمَ دونَ أن أكونَ قد تعلّمتُ الحروفَ.
لم يكن أحدٌ قد علّمني… لكنَّ السُّوَرَ كانت تتسلّلُ إليَّ كأنّها مكتوبةٌ في داخلي.
شعرتُ أنَّ هناك أبوابًا تُفتحُ من تلقاءِ نفسِها، وأنَّ كلَّ لُغةٍ هي مفتاحٌ لحجرةٍ في هذا العقلِ.
س٣: وماذا عن شَغَفِكَ باللّغاتِ؟ كيفَ تُتقِنُ ما يتعذّرُ على الجامعيينَ فَهمُهُ؟
أنا لا أتعاملُ مع اللُّغةِ كأداةٍ، بل كروحٍ.
كلُّ أبجديّةٍ هي كائنٌ حيٌّ، لها مراحلُ نُموٍّ، ونَسَبٌ، وجُذورٌ.
أنا أعودُ إلى لحظةِ وِلادتِها، أستمعُ إلى صوتِها الأوّلِ.
لذلكَ كتبتُ باليِديشِيّةِ والتَّاميليّةِ والمِسماريّةِ، وبدأتُ أُبتكِرُ علاقاتٍ رياضيّةً بينَ شَكلِ الحَرفِ ومَوقعِهِ في التّاريخِ.
س٤: قيلَ إنَّكَ دَمجتَ الرياضياتِ باللُّغاتِ وابتكرتَ أنظمةً جديدةً… هل يُمكنُكَ شرحُ ذلكَ بلغةٍ بسيطةٍ؟
أُحاوِلُ أن أُحوِّلَ الكلماتِ إلى أرقامٍ، والأرقامَ إلى جُمَلٍ.
مثلًا، كلُّ حرفٍ لهُ ذبذبةٌ صوتيّةٌ، وكلُّ ذبذبةٍ يمكنُ تحويلُها إلى قيمةٍ رقميّةٍ، وهذهِ القِيَمُ يمكنُ التّعامُلُ معها كمعادلاتٍ.
هكذا أستطيعُ أن أكتبَ معادلةً فيزيائيّةً باستخدامِ اللُّغةِ الكوريّةِ، أو أشرحَ قانونَ نيوتنَ بالسَّنسكريتيّةِ.
س٥: وماذا عن الكيمياءِ النّوويّةِ؟ هل تُخيفُكَ هذهِ العوالمُ الكبيرةُ؟
لا شيءَ يُخيفُني سوى الجَهلِ.
الكيمياءُ النّوويّةُ مثلُ رَقصةٍ بينَ الجُسيماتِ، تحتاجُ فقط أن تفهَمَ خُطواتِها.
أُحبُّ قانونَ كولوم لأنَّهُ يُشبِهُ قوانينَ الحُبِّ: كلّما اقتربنا زادَ الانجذابُ، وكلّما ابتعدنا خفّتِ الطّاقةُ.
أنا أدرُسُ الذّرّةَ كما يدرُسُ الشّاعرُ القصيدةَ: لا أكتفي بالبنيةِ، بل أَبحثُ عن الإيقاعِ.
س٦: وهل صحيحٌ أنَّكَ اخترعتَ مسألةً وأسمَيتَها “time power²”؟
نعم، هي محاولةٌ أُولى لكتابةِ علاقةٍ بينَ الزَّمنِ كطاقةٍ قابلةٍ للتّضخيمِ، لا كمجرَّدِ وحدةِ قياسٍ.
أظنُّ أنَّ الزّمنَ ليسَ خَطًّا مستقيمًا، بل يمكنُ توجيهُهُ مثلَ الضّوءِ إذا عرَفْنا قوانينَهُ الأعمقَ.
س٧: ماذا عن الموسيقى؟ كيفَ تنظرُ إليها؟
الموسيقى هي رياضيّاتٌ تُحكى.
كلُّ نغمةٍ تملكُ تَردُّدًا، والتّردُّدُ لهُ علاقةٌ بالزّمنِ، والزّمنُ هو البوّابةُ لكلِّ شيءٍ.
عشِقتُها لأنّني رأيتُ في السُّلَّمِ الموسيقيِّ لُغةً أُخرى، تُخاطبُ ذاكرتي بلَحنٍ لا يحتاجُ إلى ترجمةٍ.
س٨: لو طُلِبَ منكَ أن تَشرحَ “العَبقريّةَ” لطِفلٍ آخرَ… ماذا تقولُ لهُ؟
العَبقريّةُ ليست سِباقًا في الحفظِ، بل شغفٌ في الاكتشافِ.
أن تسألَ أسئلةً لا يَجرؤُ الكِبارُ على طَرحِها، وأن ترى الأشياءَ البسيطةَ بعينٍ لم تُدرَّب بعدُ.
كلُّ طفلٍ عبقريٌّ إذا تَرَكَتْ له الحياةُ نافذةً مفتوحةً.
س٩: وهل تَجدُ صعوبةً في التّواصُلِ مع أقرانِكَ أو في بيئةِ التّعلُّمِ؟
لم أَدخُلْ مدرسةً من قبلُ، والتّعليمُ بالنّسبةِ لي لم يكنْ صُفوفًا أو جُدرانًا، بل نوافذَ على عوالِمَ لا نِهائيّةٍ.
تعلّمتُ وحدي، لأنَّ المعرفةَ لا تحتاجُ مِقعدًا بل فُضولًا.
أنا لا أعيشُ في نظامٍ دِراسيٍّ، بل في نظامٍ كونيٍّ، أتعلَّمُ فيه من الكُتبِ، من الموسيقى، من لغاتِ الشُّعوبِ، ومن صمتِ الأسئلةِ الكبيرةِ.
في الختام… كلمةٌ من والدتِهِ:
والدةُ ساري عزّام:
أنا لا أُربّي طفلًا، بل أُرافِقُ مَجَرَّةً تُضيءُ من ذاتِها.
ساري لم يَدخُلْ يومًا إلى مدرسةٍ، ولم يفتحْ دَفتَرَ واجبٍ، ولم ينتظرْ شرحًا من مُعلِّمٍ.
كلُّ ما عرفَهُ تَعلَّمَهُ من الداخلِ، من حَدْسٍ عجيبٍ، ومن عقلٍ يُضيءُ كما لو أنَّهُ موصولٌ بمصدرٍ غيرِ مرئيٍّ.
أحيانًا يُخيفُني اتّساعُهُ، ويُربكُني عُمقُهُ، لكنِّي أعلَمُ أنَّ رسالتَهُ لا تُقاسُ بعُمرِهِ ولا بمناهجَ.
إنَّهُ يَكتُبُ قِصَّتَهُ وحدَهُ، بلُغاتِهِ هو، وعلى إيقاعٍ لا يسمَعُهُ إلّا من يُصغي للمعجزةِ …







































