كتب … حميد بركي
مقولات أجنبيّة أصلها عربي
…
جزء من كتابي الموسوعة: الشّعر فلسفة العرب
تُعدّ مسألة الأسبقيّة في إنتاج الأفكار وتداول الحِكم من بين أكثر القضايا تعقيدًا في تاريخ الفكر الإنساني، إذ غالبًا ما ترتبط فكرة الأسبقيّة بسطوة القوّة الحضاريّة السّائدة في مرحلة ما، لا بسبق الزّمن أو الرّيادة الفكريّة. هذا هو الحال مع العرب وحِكمهم وتراثهم، الّذين قدّموا في أشعارهم وأقوالهم حكمًا وفلسفات سبقت بكثير ما يُحتفى به اليوم من مقولات غربيّة، إلّا أن اختلال موازين الحضارة جعلها تُغيّب أو تُهمّش أو يُنظَر إليها بوصفها تراثًا محلّيًّا لا يُقارن بالفكر الغربي الحديث.
حين نتأمّل في مقولة الكاتب التشيكي فرانز كافكا “المعرفة لعنة وحدهم الجهلة ينامون”، نجد أن الفكرة الّتي تبدو اليوم ذروة الحكمة الغربيّة الحديثة، هي في حقيقتها إعادة إنتاج لما صاغه أبو الطيب المتنبي في بيته الخالد “ذو العقل يشقى في النّعيم بعقله وأخو الجهالة في الشّقاوة ينعم” (١)، وهذا يطرح سؤالًا فلسفيًّا جوهريًّا: هل نحن أمام تشابه تجارب إنسانيًة، أم أمام استلاب ثقافي يجعلنا نُعيد اكتشاف أفكارنا حين تأتي بلسان أجنبي؟ إن هذا التًوازي ليس مجرّد مصادفة لغويّة، بل يكشف عن عمق الفلسفة العربيّة الكامنة في الشّعر، والّتي لم تأخذ حقّها في التّقدير المعاصر، لا بسبب ضعفها بل بسبب تغييبها المتعمّد أو غير الواعي.
في سياق هذا التّغييب، لا بدّ من الاعتراف أنّ العرب في الجاهليّة وما بعدها لم يكونوا شعراء فقط، وإنّما هم حكماء فلاسفة، صاغوا رؤيتهم للوجود وللإنسان بلغة الشّعر، تلك اللغة الّتي كما هي أداة للتعبير الجمالي، هي فلسفة حيّة نابضة بالحكمة والتّأمّل والمعرفة. كان الشّعر العربي قبل أيّ فلسفة مدوّنة هو لسان الحكمة ومجال النّظر العقلي، وقد عبّر زهير بن أبي سلمى مثلًا عن معانٍ شديدة العمق ترتبط بضرورة المداراة وحتميّة التّحايل في الحياة بقوله “ومن لا يصانع في أمورٍ كثيرة يُضرس بأنيابٍ ويوطأ بمنسمِ” (٢)، وهو قول يقترب من جوهر ما بات لاحقًا يُعرف بواقعيّة ميكافيلي السّياسيّة، إذ عبّر زهير عن حكمة الضّرورة قبل أن يكتب ميكافيلي نظريّته في السّياسة بقرون طويلة.
المفارقة أنّ هذا السّبق العربي لا يُدرَك إلا حين تقع المقارنة مع قول غربي، وكأنّ الذّات العربيّة فقدت قدرتها على التّقدير المستقل لذاتها وتراثها، وهذا ما يُعرف في الفكر النقدي عقدة المركزيّة الغربيّة، حيث يُصدّق القول أو يُعطى له الاعتبار فقط حين يردّ بلغة أجنبية. غير أن هذه العقدة لا تعكس بالضّرورة تفوّقًا حقيقيًّا للفكر الغربي، وهي الّتي تعكس بالأساس قوّة الحضارة المادّيّة الغربيّة الّتي جعلت من أقوال فلاسفتها محطّ الأنظار، بينما جرى تهميش تراث العرب الّذي صيغ في قوالب شعريّة وفلسفيّة لم تُعرض بعد على وعي معاصر قادر على كشف عمقها.
حين نُمعن في مقولة المتنبي نجد أنّ البيت لا يصف فقط مأساة المعرفة، بل يُشير إلى معضلة الوعي الإنساني برمّتها، وهنا المعرفة قبل أن تكون أداة للراحة، هي عبء وجودي، والشّقاء لا ينتج عن النّقص، ممّا أظهره السّياق الزّمني عن الامتلاء العقلي، وهذه رؤية فلسفيّة مبكرة لما عُرف لاحقًا في الفلسفة الوجوديّة بمأساة الإدراك والوعي. الفرق أنّ المتنبّي عبّر عن هذه المعضلة بلغة شعريّة مباشرة مكثّفة، في حين جاء كافكا من مناخ فلسفي أكثر سوداويّة واغترابًا، فصاغها في قوالب كابوسيّة معقّدة.
كافكا في نهاية المطاف، رغم عمق تجربته، ليس أكثر من حلقة حديثة في سلسلة الفكر الإنساني الّذي يشترك في معاناة الأسئلة الكبرى، غير أنّ تأثيره جاء مضاعفًا بفعل آلة الثّقافة الغربيّة، الّتي جعلت من نصوصه أيقونة للوعي المعاصر. على النّقيض، يقف المتنًبي محاصرًا في زاوية الأدب العربي، يُحتفى به شعريًّا لكن يُغفل عنه فلسفيًّا، رغم أنّه في جوهره شاعر فيلسوف سبق عصره، وصاغ رؤية كونيّة للوجود تتقاطع مع أعمق أفكار الفلسفة الحديثة.
التّراث العربي لا ينقصه العمق ولا السّبق، وإنّما هناك أشياء أخرى تجعله أقلّ جرأة على إعادة قراءته بوعي معاصر، يحرّره من قوالب التّلقين المدرسيّ ومن النّظرة التّراثيّة الضّيّقة، فالحكمة العربيّة، سواء عند المتنبّي أو زهير أو غيرهما، أقوال ماضويّة، وإنّما هي إشعاعات فكريّة يمكن أن تخاطب الحاضر بوضوح لو وجدت من يعيد قراءتها بعين فلسفيّة نقديّة.
المشكلة الكبرى ليست في تشابه الأقوال، وقد يتبيّن عند استقراء المسار تجده في غياب العدالة الثّقافيّة، فالحضارة العربيّة تمتلك سبقًا في العديد من المفاهيم الّتي يُحتفى بها اليوم غربيًا، لكنّها ظلّت أسيرة ضعف الوعي الذّاتي لدى العرب أنفسهم، حّتى صار يُنظر إلى الشّعراء العرب على أنّهم مجرّد صنّاع بلاغة لفظيّة لا أكثر، بينما هم في الحقيقة صنّاع رؤية وفلسفة وتجربة وجوديّة عميقة.
الأسبقية هنا ليست ترفًا ولا تفاخرًا فارغًا، بل هي ضرورة فكريّة لإعادة الاعتبار للعقل العربي، والقطع مع عقدة النّقص أمام الغرب، وهي دعوة أيضًا لإدراك أنّ الإنسان واحد في همومه وتجاربه، وأنّ الحكمة لا وطن لها، لكنّها بحاجة إلى عقل ناقد يُنصفها أينما كانت.
الهوامش: ١ ديوان المتنبي، تحقيق عبد الواحد وافي، دار المعارف، ص١٣٧
٢ زهير بن أبي سلمى، ديوان زهير بن أبي سلمى، تحقيق فخر الدين قباوة، دار المعرفة، ص٨٨
٣ ديكارت، مقال عن المنهج، ترجمة جميل صليبا، دار القلم، ص٥
كتب … حميد بركي






































