انكسارُ المرآةِ: صدى الخذلانِ في ملامحِ الأحبّةِ.👇
————————————————————
كان البيتُ، في عيني، قصّةً محفورةً في جدرانِ الرّوح، أبطالُها وجوهٌ ألفَتْها الذّاكرةُ قبلَ أن يبصرها القلب. كلُّ زاويةٍ فيهِ كانتْ فصلاً، وكلُّ ضحكةٍ سطراً، وكلُّ دمعةٍ نقطةً تُضيفُ معنىً لحكايةِ الأمانِ المطلق. اعتقدتُ أن حبالَ الدّمِ تنسجُ نسيجاً لا ينفصم، وأنّ دفءَ الألفةِ سيُبقي شمسَنا تشرقُ بلا غروب. كان سقفُ هذا البيتِ، في مخيّلتي، قُبّةً سماويّةً تحميني من عواصفِ الزّمان، وأسسُه صخورٌ لا تهتزّ، مهما عصفتْ رياحُ القدر.
ولكن، ليتَ الحكاياتِ الجميلةَ لا تعرفُ طعمَ المرارة! لم تأتِ الرّياحُ هذه المرّةِ من خارجِ الأسوار، بل هبّتْ من داخلِ البيتِ نفسه، حاملةً معها غبارَ التّغييرِ الصّامت. لم يكنْ زلزالاً يُدمّرُ البنيانَ بلحظة، بل كانَ أشبهَ بنقيقِ الماءِ الخفيّ، يتسلّلُ إلى الأساساتِ، فيُفتّتُ صخرَ الثّقةِ حبّةً حبّة. رأيتُ الشّقوقَ تتّسعُ في الجدرانِ الّتي ظننتُها حصينة، وسمعتُ همساتِ الغرباءِ تتسلّلُ من أفواهٍ كانَ صوتُها يوماً لحنَ الطّمأنينة.
خيبةُ الأملِ في الأهلِ، يا صديقي، ليستْ مجرّدَ إحساسٍ عابر، إنّها شرخٌ في مرآةِ الرّوحِ لا يراهُ سوانا. هي أن تُبحرَ في بحرِ الوجوهِ المألوفة، فلا تجدُ شاطئاً لقلبكَ التّائه. أن تسمعَ الصدى يعودُ إليكَ غريباً، من حيثُ كنتَ تنتظرُ اللحنَ الأصيل. إنّها اللحظةُ الّتي تسقطُ فيها أوراقُ الخريفِ عن شجرةِ العائلة، لتُعلنَ عن فصولٍ لم تكنْ في الحسبان. فتجدُ نفسكَ وحيداً في وسطِ دائرةٍ من الأقارب، كأنّكَ شبحٌ يتجولُ بين أطلالِ ماضٍ كانَ لهُ يومًا وهجُ الحياة. تتساءلُ حينها: هل كانَ هذا البيتُ مجردَ سرابٍ بديعٍ صُنعَ ليخدعَ قلبي؟
كم هي مؤلمةٌ تلكَ اللحظةُ التي تُدركُ فيها أن الأياديَ التي كانتْ تُفترضُ أن تُسندكَ، هي نفسها من أطلقتْ سهامَ الغياب. وأن الأعينَ التي كانَتْ مأمنكَ، أصبحتْ تُحدقُ فيكَ كالغرباء. تتوهُ في متاهةِ الذكرياتِ، بينَ صورةٍ قديمةٍ للبيتِ يضجُ بالحياة، وصورةٍ حديثةٍ لخرابٍ يسكنُهُ الصمت. ورغمَ كلِ هذا، يبقى سؤالٌ معلقٌ في فضاءِ الروح: هل تُعيدُ الأرضُ زهورَها بعدَ الجفاف؟ وهل تُرممُ القلوبُ ما هدمتْهُ يدُ الزمانِ أم أن بعضَ الجروحِ تُخلقُ لتبقى شاهداً أبدياً على خيبةٍ لم تكنْ في الحسبان؟ ولعلَّ في هذا الكسرِ نورٌ جديدٌ لم نكنْ لِنُبصرهُ لولا الظلام.
بقلم عمرو عاشور






































