كتب … حميد بركي
سكينة ابنة الحسين بن علي رضي الله عنهم صاحبة أوّل صالون أدبي
…
في صفحات التًاريخ الإسلامي تتلألأ سيرة السّيّدة سكينة بنت الحسين، المرأة الّتي جمعت بين النّسب الرّفيع والعقل الرّاجح، وبين التّقوى والبيان، وبين الوقار والعلم. ولدت في المدينة المنوّرة سنة سبع وأربعين للهجرة، وهي ابنة الحسين بن علي بن أبي طالب، حفيدة فاطمة الزًهراء رضي الله عنهم جميعًا، وأمّها الرًباب بنت امرئ القيس الكلبي، وكانت من خير نساء العرب أدبًا ونسبًا. وقد سُميت عند ولادتها «آمنة» تيمّنًا باسم جدّة النّبي صلى الله عليه وسلم، غير أنّ والدتها اختارت لها اسم «سكينة» لما رأته من هدوئها وسكونها، فغلب هذا الاسم حتّى صار هو الأشهر في المرويات¹
نشأت سكينة في بيت النّبوّة، وترعرعت بين علي والحسين وزينب، فنهلت من معين الخلق والدّين والعلم، فكان لها منذ الصّغر عقل ناضج ولسان فصيح وقلب متعلًق بالله. وعندما وقعت مأساة كربلاء كانت سكينة قد بلغت الرّابعة عشرة من عمرها، فعاشت الفاجعة بكلّ جوارحها، وشهدت مقتل والدها وأهل بيتها، ثم سُبيت مع النّساء إلى الكوفة ومنها إلى الشّام، وعُرفت هناك بجَلَدها وثباتها، وكانت كلمتها قويّة في وجه الطغيان، تعبّر بها عن موقفها وموقف آل البيت من الظّلم والانحراف²
وقد رثت أباها بكلمات تفيض ألمًا وإيمانًا، فقالت: «قد كنت لي جبلًا صعبًا ألوذ به… من لليتامى ومن للسائلين ومن يأوي إليه كلّ مسكين؟» وهي كلمات نقلها بعض المحدّثين وأهل السّير، لما فيها من صدق التّعبير ورقّة البيان³
بعد عودتها إلى المدينة، عاشت تحت كنف أخيها الإمام علي بن الحسين زين العابدين، وكان لها مقام عظيم بين نساء المدينة وعلمائها، وقد ذكرها الذّهبي وابن كثير وابن خلكان في مصنّفاتهم، وبيّنوا منزلتها في الفقه والأدب⁴. كانت ذكيّة فصيحة، حافظة واعية، جمعت بين زهد العارفين وثقافة البلغاء، وجعلت من بيتها مجلسًا للعلم والحديث والشّعر، حتّى أصبحت مقصدًا لفقهاء المدينة وشعرائها، ممّا دفع بعض المؤرّخين لوصفها بأنّها صاحبة أوّل صالون أدبي بالمعنى الّذي نعرفه اليوم⁵.
وكانت كريمة النّفس، سخيّة اليد، زاهدة في الدّنيا، روت كتب السّير أنّ أخاها علي بن الحسين كان يستعد للحج، فأعدّت له سفرة أنفقت فيها ألف درهم، فلما بلغه ذلك، أمر بتوزيعها على الفقراء، وكانت راضية مطمئنة⁶. وهذا يدل على ما نشأت عليه من زهد وعفة وكرم، فقد شبّت في بيت لا يعرف إلّا الإحسان والرحمة
أثرت سكينة الحياة العلميّة والأدبيّة في المدينة، وكانت ذات مكانة رفيعة في نفوس النّاس، تروي الحديث، وتفقه النّساء، وتبثّ روح آل البيت في النّفوس، بعيدة عن التّرف، قريبة من جوهر الدّين. ومع تقدّمها في العمر، ازدادت حكمة وخشوعًا، وظلّت على حالها من العبادة والتقوى إلى أن توفّيت في المدينة المنوّرة سنة سبع عشرة ومئة للهجرة، وقد ناهز عمرها السّبعين عامًا⁷
إنها ابنة شهيد و حفيدة نبي، كانت عقلًا حيًّا وقلبًا نقيًّا ولسانًا ناطقًا بالحقّ. سكينة بنت الحسين، عنوان امرأة من الإسلام، صنعت لنفسها سيرة تتجاوز كونها من نسل النّبوّة، لتكون قدوة في العلم والخلق والصّبر والكرامة.
…..
الهوامش والمراجع
¹ ابن سعد، الطبقات الكبرى، ج8، ص464، دار صادر.
² ابن كثير، البداية والنّهاية، ج8، ضمن أحداث كربلاء.
³ الخوارزمي، مقتل الحسين، ج2، ص41، دار الكتب العلمية.
⁴ الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج4، ص387، مؤسسة الرّسالة.
⁵ شوقي أبو خليل، نساء من أهل البيت، ص138، دار الفكر.
⁶ ابن الجوزي، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، ج8، ص206، دار الكتب العلمية.
⁷ ابن خلكان، وفيات الأعيان، ج2، ص360، تحقيق إحسان عباس.
كتب … حميد بركي






































