أبي الثاني، وملهمي الأول.. عن الأستاذ أحمد العميسي.
الكاتب: محمد نبراس العميسي.
إذا ما تحدث الشباب عن قدواتهم، وعن أولئك الذين عبروا حياتهم ذات لقاء، وتركوا أثراً طيباً وذكرى خالدة، فأنا سأتحدث، وسأكتب عن الأستاذ أحمد العميسي؛ الأب، القدوة، الملهم، والرقم الصحيح في معادلة الأرقام.
سأعود إلى البدايات، إلى الماضي البعيد، إلى أزمنة الطفولة في مديريتنا الوادعة “وَضَرَة”، المديرية التي تتربع في الجانب القصي من محافظة حجة. هناك، وُلدت في قرية “المعزاب” على وجه الدقة، وقرأت أبجديات التراب، وهناك كبرت حتى بلغت السابعة، فالتحقت بمدرسة الفتح -غارب عزي-، المدرسة الثانوية التي كانت ملتقى لطلاب القرى المجاورة. كنت كأي تلميذ من أبناء الريف، أحمل حقيبتي وأذهب صباحاً، ثم أعود ظهراً. مرّت سنواتي الدراسية: أول، ثم ثانٍ، فثالث، فرابع، وفي الخامس رأيت تلميذاً أنيقاً يأتي من قرية أخرى تقع غرب قريتنا، طريقه إلى المدرسة يمر عبر قريتنا، وكان يلفت الأنظار كل صباح؛ يرتدي بدلة رسمية، مهذب الطباع، جعل الجميع يتفقون على محبته. كان ذلك التلميذ محمد أحمد العميسي، الذي سيصبح لاحقاً صديقي، لكن بعد أربع سنوات من ذلك اللقاء.
بلغت الصف الثامن، وكان محمد في الصف السابع. كان مسؤولاً عن الإذاعة الصباحية في صفه، وكنت أنا مسؤولاً عنها في صفي. كانت إذاعته تلقى تصفيقاً حاراً من المعلمين، أكثر من إذاعتي، وأعترف أنني حينها شعرت بشيء من الغيرة، وهذا ما جعلني أقترب منه وأتعرف عليه عن قرب. وكان لهذا اللقاء ما بعده إلى يومنا هذا، والمقام لا يتسع لسرد كل التفاصيل.
في نهاية المرحلة الإعدادية، شاركت في مسابقة قرآنية، وحصدت فيها ساعة جرس. وبعدها بوقت قصير، توثقت علاقتي بخطيب قريتنا وإمامها، الأستاذ علي شوعي العميسي -رحمه الله-، ومن خلاله تعرفت على الأستاذ أحمد.
حضرت مجالس الأستاذ أحمد، ورافقته في رحلات متعددة، منها إلى الحديدة، ومنها في داخل المديرية وضواحيها، وكانت تلك اللقاءات بمثابة نقطة تحول فارقة في حياتي. هذه المعرفة صاغتني، جعلتني أكثر طموحاً، أشد شغفاً، وأكثر حباً للمستقبل، دفعتني إلى الاجتهاد والمثابرة، فصرت متفوقاً بين زملائي، أو منافساً على العلامة الكاملة.
ولولا أن أحد زملاء الدراسة نشر مقالة عن الهجرة كتبها الأستاذ أحمد، لما كتبت هذا المقال الآن. قرأت مقالته وشعرت بالرهبة، كيف للكلمات التي كنت أسمعها عالي الصوت، قوي الرنين في مسجد قرية “الملحة” أن تتحول إلى مقال مكتوب؟! أي رهبة تعتريك وأنت تقرأ بعد أعوام ما كنت تسمعه في تلك الأمسيات الإيمانية؟!
وأنا أقرأ لأبي العزيز هذا المقال –هكذا يحلو لي أن أسميه– اختنقت بالدموع، إذ أعادني إلى زمن مضى، زمن الطفولة، زمن المدرسة، زمن أن كنت تلميذاً يمشي في دروب الحياة دون هدى، حتى التقيت بمحمد، الذي عرّفني بوالده، فعرفت الطريق ومشيت.
الأستاذ أحمد، ومعه الأستاذ علي شوعي –رحمه الله– من أجمل من عرفت. شخصان لا أقارنهما بأحد، ولا أعتقد أن للحياة منهما نسخاً أخرى إذا ما غيّبتهما الأيام.
في أواخر الإعدادية، كنت أشغل منصب رئيس نادي اليرموك، النادي الثقافي والدعوي والرياضي، إلى جانب محمد وفؤاد وهلال وبقية الرفاق. وكان اللقاء بالأستاذ أحمد فرصة دائمة للتزود الروحي. صدّقوني إن قلت: أنا صنيعة تلك الأيام، وما زلت إلى الآن أستنشق عبيرها كلما ضاق صدري أو حنّت روحي للصفاء.
أذكر مرة، كنت عائداً من بقالة علي قائد قبل صلاة التراويح، فإذا بي أسمع قوله تعالى:
{فمن زحزح عن النار وأُدخل الجنة فقد فاز، وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور}
كانت تصدح بها حنجرة الأستاذ أحمد من مسجد “الملحة”، وكم غمرتني آنذاك الطمأنينة، وسكن قلبي اليقين. يالله، ماذا تفعل الكلمات السماوية بالقلوب؟!
ومرةً كنا عائدين من رحلة إلى وادي مور، وحين أنزلني الأستاذ أحمد أمام قرية “المعزاب” في المقبرة، التفت إلي وقال:
“إن عزّ اللقاء في الدنيا ففي
مواقف الحشر نلقاكم ويكفينا.”
عندها أصبت بالصدمة، دمعت عيناي، وظللت أرقب السيارة حتى توارت خلف مدرسة الفتح، ثم رأيتها من بعيد تواصل المسير، حتى اختفت أنوارها في منطقة “تغلب”.
الأستاذ أحمد هو معلمي وملهمي الأول، أبي -رحمه الله- أدخلني مدرسة الفتح، أما الأستاذ أحمد فقد أدخلني مدرسة الحياة، مدرسة الوعي والنور.
أكتب هذا الكلام اعترافاً وامتناناً، وشهادة للتاريخ، وأعترف أن كلماتي هنا مقصّرة.
حفظ الله أستاذنا العزيز، وأطال عمره، وجعله منارة لا تنطفئ، وسارية مضيئة في درب النور والهداية والصلاح.






































