#قراءات_نقدية
قراءة في مقتطف من قصيدة “صمت الخطوات” للشاعر مصطفى سليمان: نص العتبة الرامز، ونبوءة الغياب القادم
Mustapha Sliman
نور الدين طاهري
النص الذي بين أيدينا، الموسوم بـ”صمت الخطوات”، هو نص شعري رمزي شديد الكثافة، مشبع بالإشارات التاريخية والسياسية، متكئ على بنية رؤيوية تقارب الحلم الجمعي، لا بوصفه ملاذا، بل كإعادة إنتاج للصدمة، وإحياء لدهاء الهيمنة بلغة مُلغَّزة تستدعي يقظة تأويلية عالية. هذه اللغة متميزة بالترميز المكثف والتعبير المركب، تستعين بالصورة والاستعارة لتضفي أبعادا متعددة على المعنى، إذ لا تكتفي بوصف الواقع بل تشتغل على تفكيكه وإعادة تركيب دلالاته.
القصيدة لا تُقرأ بوصفها تأملا شعريا فحسب، بل كبيان وجودي ينهض من رماد الصمت، ويتكلم من قلب الفراغ، ويفتش في خرائط الخداع العالمي بلغة شفيفة من الخارج، دامغة من الداخل. أسلوبها قاس وحادّ، متكئ على جمل قصيرة موجزة، تكتنفها حالة من الانقطاع والتهديد، يُغذيها استخدام التكرار المقصود والمضادّات التي تُبرز التوتر بين الوجود والغياب، بين الكلام والصمت، بين الحركة والسكون. البناء الفني هنا قائم على التناصّات التاريخية، والتلاعب بالألفاظ المركبة، واستخدام الإيقاع الداخلي الذي يشبه دقات قلب يعلو ويخفت، مما يولّد إيقاعا داخليا يعكس حالة التوتر المستمر.
منذ الجملة الافتتاحية “مبتورة الطرق”، ندخل عالما منكسرَ الجهات، مشوشَ الإحداثيات، يتأسس على فقدان المعنى، وعلى حركة تُبتَر قبل أن تولد. فالفعل الشعري لا يبدأ بالسير، بل بانقطاع الطريق. وهذا القطع ليس تعبيرا عن اليأس بل عن الجرح الحضاري العميق، كأن القصيدة تشي بأن ما نعيشه ليس ضياعا عابرا، بل بترا متعمدا للذاكرة والهوية. هنا، يعتمد الشاعر على لغة التجريد، والافتراق، إذ يتلاعب بالكلمات لتكوّن مشهدا مرئيا في الذهن، لكنه في الوقت ذاته غامض ومفتوح على التأويل، مما يعزز الرمز والدلالة العميقة للنص.
ثم يتلوها الفعل “تتكئ” الغامض، المفتوح على اللاشيء، كأن المعنى نفسه يتوكأ على عجزه، ويهيم في الفراغ، وعلى “عصا اللهفات” التي لا تُفسَّر إلا كاستعارة مركّبة للانتظار القَلِق، للرغبة المشتعلة في المجهول، للهروب من بتر الطريق أو للركض نحو خلاص قد لا يأتي. الأسلوب هنا يستعين بالإيحاءات والاستعارات التي تحمل في طياتها حسا عاطفيا مركبا، إذ يعكس الرمز المتداخل الحالة النفسية الممزقة، كما لو أن اللغة تبحر في قاع اللاوعي.
وهنا تتبدى روما — لا بوصفها جغرافيا، بل كقناع أيديولوجي، كتمثيل لتاريخ الهيمنة — عائدة من تحت الرماد، في نسخة مطوّرة، ماكرة، محجّبة بعباءة الزمن الجديد. ليست عودة بهاءٍ كلاسيكي، بل انبعاث نمط غزوي، منقّح، مدجّج بفنون التخفي. الأسلوب الوصفي المكثف يستعين بالتضادّات بين القديم والحديث، وبين الظاهر والباطن، مما يخلق توترا لغويا يخدم فكرة الازدواجية والغموض. البناء الفني في هذه الفقرة يعتمد على المحاكاة التاريخية والتلميح السياسي، وتوظيف الصوت الداخلي للنص ليكشف عن مكر السلطة المتجددة.
“عادت روما الجديدة”، لا كمجرد سلطة، بل كمخيال يتغلغل، كعقيدة زاحفة تتسلل من الثقافي إلى النفسي، ومن الظل إلى العلن. ومجيئها لا يتم عبر المداخل التقليدية، بل “من فناءات الحدائق الخلفية”، تلك العبارة التي تحيل إلى الخطط المضمَرة، إلى الاختراقات الناعمة، حيث لا ضجيج، ولا جيوش، بل غوايةٌ تنبع من الداخل. إيقاع الجملة هنا هادئ وحذر، يتسلل مع الكلام كهمس متخفٍ، والأسلوب يميل إلى التعبير المجازي الذي يدمج بين البصيرة السياسية واللمسة الفنية الرؤيوية.
روما لا تظهر بقوة الصراخ، بل بهمس “العرّاب”، ذاك الذي يؤكد دون صوت، ويقرر دون ظهور، فيتم كل شيء تحت قشرة الصمت. هذا هو مكر الخطاب، أن يتحول إلى صمت ناعم، يتسلل لا ليبشّر بل ليهندس وعينا وفق خارطة أخرى. الأسلوب هنا يشبه الهمس الخفي، والتشخيص المموه، حيث يتحول الخطاب من مجرد كلام إلى فعل سحري ذو أثر خفي، والبناء الفني يعتمد على التجسيد الرمزي الذي ينقل السلطة إلى مستوى اللاوعي الجمعي.
تكرار العبارات مثل “دون بوصلة”، “دون الخوض”، “ممتزج الأنساب”، يشكل بنية نفي مقصودة، تحذف الثوابت، وتخلط الأصول، وتفتح الباب لزمن هجين، لا يملك نقاءه ولا سنده. حتى حين ترد كلمات مثل “نقية، تقية”، فهي لا تحيل إلى طُهرٍ فعلي، بل إلى قناع بريء يخفي تحوّلات خطيرة. التكرار هنا لا يعمل فقط على ترسيخ فكرة النفي والضياع، بل يعمل كإيقاع يدور داخل النص كصدى مزعج، يربك القارئ ويدفعه إلى إعادة التفكير في مفاهيم الثبات والهوية.
كل شيء يُعاد تأسيسه وفق هندسة محكمة: “العمود الأول”، “تجريدة السنة الآنية”، “طلائع الحدائق الخلفية”… نحن أمام نص لا يُحصي الخسارات فقط، بل يكشف نواة الزمن الجديد، حيث الانهيار لا يكون من الخارج، بل من الداخل، وحيث الرماد لا يُدفن بل يُستثمر، كما تقول العبارة المكثّفة: “نُثِر الرماد في وادي الموات”. وادي الموت يتحول إلى رحم ولادة. كل موت هو بداية. هذا البناء الفني يعتمد على التضادّ بين الموت والولادة، ويتحرك ضمن استراتيجيات التفكيك وإعادة البناء، لغة الشعر هنا مشحونة بالرمزية والبلاغة التي تستثير مخيلة القارئ وتأخذ به في رحلة بين الأبعاد الزمنية والمكانية.
“هي غفلة اللاأحد”، جملة تنتمي إلى بُنية ما بعد الحداثة، ولا مركز، لا فاعل، لا مسؤولية، فقط غياب يُدير الحضور. ومن هنا، لا أحد مسؤول عن عودة روما، ولا أحد يسأل، لأن الجميع في سبات. بل إن روما نفسها تمارس فعل المحو من أجل التجدّد: “حرقت اسمها”، لكنها لم تمت. وكأنها تنزع جلدها كي تعود، أكثر دهاء، وأكثر تقمصا لأسطورة الجاذبية. الأسلوب هنا ينفذ إلى عمق اللاوعي السياسي والاجتماعي، متوظفا تقنية الإشارة والإنكار لإظهار هشاشة الوعي الجمعي، مع بناء سردي محكم يعكس التناقضات الكامنة في التاريخ المعاصر.
كل ما تفعله روما يتم بلغة الأساطير القديمة، حيث الجاذبية مغلّفة، والرغبة مدروسة، والتخطيط يُنجز في “الأسِرّة المريحة”، لا في غرف الحرب. لقد أصبح النوم أداة من أدوات السلطة، والسُّبات ستارا يُخفي فكرا لا يغفو. هنا يلعب النص على تشبيه غنائي، حيث السكون ليس غيابا بل هو فعل استراتيجي، واللغة تتقاطع مع الرموز الأسطورية لتضفي على السلطة بعدا غامضا وقويا، والبناء الفني يركّز على التوتر بين الظاهر والباطن، بين الحلم والواقع.
روما الجديدة لا تُهاجم، بل “تطبخ” قدرها كما في المثل الشعبي، ليتم إخفاء النية داخل البهارات، كما لو أن كل شيء جاهز لتقديم السيطرة في طبق مغرٍ، كما تقول القصيدة: “شغف الطبخة وفريد البهارات”. ثم “استفاقت”، لا لتصرخ، بل لتُسكت الخرافة، وتسترجع السيطرة عبر عواطف مسمومة، بـ”ترياق القبلات”، وتُعيد تشكيل العالم تحت شعار: التلذذ لا المقاومة. هنا يستعين النص بالاستعارة الطبخية والفلكلورية ليحكي قصة السيطرة اللطيفة والمموهة، الأسلوب يمزج بين الطرافة والتهديد، والبناء الفني يبتكر فضاءً شعريًا متعدد الأبعاد يتداخل فيه الحسي بالمجرد.
تتحول روما في النهاية إلى “شمس”، إلى مركز إشعاع، رغم أنها بدأت في الظلمة، ونهاية الطريق تعود إلى مبتدئها: “مبتورة الطرق”. إنها عودة الدائرة، كما لو أن الزمن لا يسير بل يدور، يعيد إنتاج نفسه بحلة جديدة. روما لا تتحرك فقط، بل “تُرفع على أكتاف الأوطان الجريحة”، وكأن الشعوب نفسها — بضعفها، بخنوعها، بأحلامها المهزومة — هي من يعبد الطريق للسيدة المستعمِرة الجديدة. بل وتحتفي بها، في “نشوة خطواتها”، لا كفرح، بل كدهس. والدهس هنا ليس صوتيا، بل صامت، مخيف، منقوش على “أشلاء الشعوب البئيسة”. البناء الفني هنا يختتم النص بدائرة مغلقة تحمل معنى لا فرار منه، وتوظف التكرار الختامي والصورة التراجيدية لتترك أثرا نفسيا عميقا على القارئ، حيث اللغة في أوج تألقها الرمزي والتصويري، والأسلوب يختزل الألم في جمل موجزة مشحونة بالحزن والتحدي.
القصيدة — إذن — ليست فقط نصا شعريا، بل بيانا استباقيا. إننا لا نقرأ قصيدة، بل نُستدرَج إلى فخ تأويلي يُجبرنا على التساؤل: من يخطط؟ من ينهض؟ من ينام؟ من يسكت؟ ومن يتكلم من تحت عباءة الصمت؟ “صمت الخطوات” هو عنوان لا يُشير إلى الغياب بل إلى الدهس الصامت، إلى مكرٍ يمشي على رؤوس الحروف دون أن يُسمَع، لكنه يُحفر في الجلد. إننا أمام نص يُمارس الشعر كخطة فكرية، لا كغناء. ويتعامل مع اللغة كفعل يقظة لا كوسيلة تعبير. وهو بهذا، يستحق أن يُقرأ بحدقات الوعي لا بأعين العاطفة.
———-
”” صمت الخطوات ““
[ … مبتورة الطرق ..
تتكئ .. و عصا اللهفات
.. أَنْ عادت روما الجديدة ..
… و أول العاصفة .. ظهرت
هكذا .. و من بعيد ، أكدها العراب
.. قبيل اختفاء حوافر وِجهة القافلة ..
… دون بوصلة ، محركات البحث
دون الخوض .. و مُمْتَزَج الأنساب
طفت منتشية .. نقية تقية
… العمود الأول ..
و عناوين تجريدة السنة الآنية
… الطلائع الأولى .. حَلَّت
.. و فناءات الحدائق الخلفية ..
… ألم يُقَل أنها .. اندحرت
أنها حوصرت .. احترقت
.. نُثر رمادها وادي الموات .. !؟ ]
[ … هي غفلة اللاأحد ..
روما الأمس .. حَرَّقَت اسمها فقط
… روما الأمس ..
تمددت .. دلال الأميرة
كما و الأساطير القديمة
.. الأَسِرَّة المريحة عميق السبات ..
… روما لم تمت ..
روما عصية هي .. و الممات
… روما قُبَيل السبات ..
جندت ، رتبت ، خططت
… أَنْ سعرت
.. شغف الطبخة و فريد البهارات ..
… روما بُعَيد السبات .. استفاقت
نَبَّهت و خرافة الهرطقات
.. أمير يأتيها و ترياق القبلات .. ]
[ … روما حية ظلت ..
.. نائمة و حلم الرقعة البديلة ..
لم تُخْبَ جمرات النزعة الدفينة
… لأجل النسخة الجديدة .. ارتقبتْ
.. و جديد أصباح العالم .. انبعثت ..
… مبتورة الطرق ..
دون الشعلة الشهيرة
.. حلت روما شمسا و ليالي المدينة ..
… روما صارت .. العزيزة
روما الجائعة .. و المساحات الشاسعة
انطلقت مكتسحة
.. تُرفع و أكتاف الأوطان الجريحة .. !
… روما الآن ..
تعيش نشوة خطواتها
.. ممشى أشلاء الشعوب البئيسة .. ]
– مقتطف من قصيدة : “صمت الخطوات”
مصطفى سليمان / المغرب.






































