بقلم د .. بوخالفة كريم _ سوسيولوجي جزائري
اللّامعياريّة والإنسحاب الإجتماعي في الجزائر: المجتمع الذي نسي نفسه!
-مقدمة-
في خضم التّحولات العاصفة الّتي يعيشها المجتمع الجزائري، يبدو أن هناك إنكسارًا داخليًا صامتًا، لا يُدوَّى في الأخبار، لكنّه محسوس في السّلوك اليومي، في الشّارع، في المدرسة، في العمل، وفي نظرة الفرد للآخر. إنها حالة من اللّامعياريّة (Anomie) والإنسحاب الإجتماعي، حيث تتلاشى الرّوابط الجماعية ويتراجع الشّعور بالإنتماء إلى “نحن” لصالح “أنا” معزولة، قلقة، وغير معنية بالمصير الجماعي. المجتمع الجزائري، الّذي كان يومًا ما يتغنى بـ”الدّوار”، “الحي”، “الجيران”، أصبح اليوم يعاني من فراغ رمزي وقيمي يكاد يحوّله إلى مجرّد تجمّع بيولوجي لجماعات مفككة.
يعيش المجتمع الجزائري في مفترق طرق تاريخي وإجتماعي وثقافي، إذ تتداخل فيه التّحولات المعرفية والجذرية الّتي ألقت بظلالها على القيم والمفاهيم الجماعية. هذه التّحولات ليست فقط نتيجة لتأثيرات العولمة والحداثة، بل هي أيضًا نتاج ممارسات تاريخية وضغوط إجتماعية ومشكلات داخلية أدت إلى ما يمكن تسميته بـ”اللّامعيارية” الإجتماعية، أو تلك الحالة التي يتخلى فيها المجتمع عن معاييره وقيمه التّقليدية لصالح فردانية متصاعدة في عالم تسوده المطامح الذّاتية.
وفي خضم هذا التّحول، برزت ظاهرة الإنسحاب الإجتماعي، حيث لم يعد الأفراد يشعرون بإنتمائهم لمجتمع واحد متماسك، بل أصبحوا كائنات مفصولة عن بعضها، لا تهمهم نظافة الشّارع، ولا مصير المدرسة، ولا أمن الحي. لقد تفكك الشّعور الجماعي، وحلّت محلّه أنماط وجود فردية، قلقة، ومعزولة.
في هذا السّياق، نجد أنّ المجتمع الجزائري، على الرّغم من مسيرته النّضالية الطّويلة ضد الإستعمار، قد مرّ في مرحلة ما بعد الإستقلال بتحديات ثقافية وإجتماعية أدت إلى إنهيار بعض من مقومات الهوية الجماعية. واليوم، يواجه المجتمع الجزائري ظاهرة الإنسحاب الإجتماعي الّتي تُعتبر إحدى أبرز تجليات هذا التّحول، حيث يشعر العديد من الأفراد بالعُزلة والإغتراب نتيجة للظّروف الإجتماعية والإقتصادية الّتي تعيشها البلاد.
إنّ المجتمعات الّتي تمر بتحولات جذرية مثل المجتمع الجزائري، الّتي إنتقلت من مرحلة النّضال ضد الإستعمار إلى مرحلة بناء الدّولة، تواجه تحدّيات كبيرة في الحفاظ على هويتها الجماعية. على الرّغم من أنّ الجزائر كانت قد بنت هويتها بعد الإستقلال على أساس من التّضامن الجماعي والنّضال الوطني، فإن الإتجاه المُتزايد نحو الفردانية أصبح يشكل تهديدًا لهذه الهوية …
مثال على ذلك هو ما حدث في السّبعينات والثّمانينات، عندما كانت الجزائر تشهد تطورًا ثقافيًا وسياسيًا يعكس هويتها الوطنية. لكن مع بداية العولمة والتّطور التّكنولوجي، بدأ الشّباب الجزائري يتحوّل بشكل تدريجي إلى فردانيين لا يهتمون كثيرًا بالقضايا الجماعية أو الموروثات الثّقافية، بل أصبحوا أكثر تعلقًا بالقيم الغربية الإستهلاكية.
///// المُجتمع الجزائري: بين الفردانية والإنتماء الجماعي :
لا شك أن المجتمع الجزائري، شأنه شأن الكثير من المجتمعات الّتي وصفها الفيلسوف الفرنسي جاك بارك بـ “المجتمعات دون التّحليل” (Sociétés sous-analysées)، يعتبر مجتمعًا حافلاً بالفرص البحثية والنّقدية. إنّ التّحولات الّتي شهدها هذا المجتمع بعد الإستقلال كانت متسارعة، وهو ما أدى إلى فقدان الكثير من المعايير التّقليدية الّتي كانت تحكم سلوكيات الأفراد وتعاملاتهم. كانت هناك دائمًا قيم ثابتة، مثل مفهوم “العيب” و”الحرام”، الّتي كانت تُقيد سلوك الأفراد وتحدد حدود المسموح به إجتماعيًا. ولكن مع دخول المجتمع الجزائري في عصر الحداثة والعولمة، بدأت هذه القيم تتآكل تدريجيًا لتفسح المجال للأيديولوجيات الفردانية، الّتي تقيم الأفراد على أساس مصالحهم الشّخصية بعيدًا عن أي ضوابط جماعية.
لقد فقدت القيم الإجتماعية في الجزائر معناها المُتجذر، وأصبحت شعارات يُتلاعب بها. “العيب” لم يعد عيبًا، و”الحرام” فقد قدسيته، و”الوطن” أصبح كلمة ثقيلة في أذهان بعض الشّباب. إنّ تفريغ المفاهيم من معناها الأصلي أدى إلى خلق وعي جماعي مشوش، عاجز عن التّمييز بين الحقيقي والمُزيف، بين القناع والوجه، بين الأخلاق والسّياسة.
في هذه البيئة، يصبح التّعليم مجرّد شهادة، والعمل مجرد وسيلة للبقاء، والعلاقات الإجتماعية مجرّد مصالح عابرة. ويفقد المواطن إحساسه بالزّمن الثّقافي، إذ لا يعود الماضي مُلهمًا، ولا المستقبل واضحًا،لقد أصبحنا نعيش في فترة يفتقر فيها المجتمع إلى المعيار الجامع الذي كان يُحدد ما هو مقبول وما هو مرفوض. نعيش الآن في مرحلة “النّورمالية”، حيث إختفى المعيار التّقليدي، وأصبح كل شيء مقبولًا طالما أنه لا يخرج عن نطاق المصلحة الفردية. هذا التّحول قد تكون له آثار سلبية كبيرة على الهوية الجماعية للمجتمع، إذ لم يعد هناك دليل ثابت يشير إلى ما يجب أن نكون عليه كأفراد وكمجتمع.
إنّ الحالة الّتي يعيشها المجتمع الجزائري اليوم يمكن أن تُوصف بأنها حالة “عجز جماعي”. فبينما يُظهر الأفراد ميلاً متزايدًا نحو التّفرد والإنعزال، يتراجع الوعي الجماعي الذي كان يحكم حياتهم الإجتماعية. هذه الفردانية المتزايدة أدت إلى فقدان روح التّضامن والإحتكاك الإجتماعي بين الأفراد. إذا كان المجتمع الجزائري قد مر بتجارب سياسية وإجتماعية قاسية، فإنه اليوم في حاجة ماسة إلى إستعادة توازنه عبر بناء هوية جماعية جديدة، هوية تستند إلى قيم إنسانية وعقلانية، ولكن دون التّفريط في مبادئه الثّقافية والرّوحية إنّ أحد أكبر التّحديات الّتي تواجه المجتمع الجزائري اليوم هي أزمة فقدان “المفاهيم” من محتواها الأصلي وتأكل الهوية الجماعية فالمفاهيم التّقليدية الّتي كانت تمثل الأُسس الثّقافية والإجتماعية للمجتمع، مثل “العيب”، “الحرام”، و”الكرامة”، قد تآكلت بفعل العولمة والنّزعة الفردانية الّتي جعلت هذه القيم مجرّد شعارات فارغة. وهذا التّآكل في المفاهيم يؤدي إلى حالة من التّشوش الفكري والثّقافي بين الأفراد، بحيث لم يعد بإمكانهم تمييز ما هو صواب من خطأ.
مثال على هذا يمكن أن يكون في تطور العلاقات الأسرية، حيث كانت العلاقة بين الزّوج والزّوجة في الماضي قائمة على الإحترام والتعاون داخل إطار من القيم الدّينية والإجتماعية. ولكن في الفترة الأخيرة، بدأنا نلاحظ تراجعًا في هذه القيم، وأصبح العديد من الأزواج يعتمدون أكثر على المصلحة الشّخصية بدلاً من الإلتزام بالقيم المجتمعية التّقليدية. ونتيجة لذلك، نشهد العديد من حالات الطّلاق والفراغ العاطفي الذي يؤدي إلى تفكك الأسرة، مما يعكس تآكل الهوية الجماعية.
//// اللّامعياريّة: زوال المعيار في زمن العطالة الرّمزية :
مفهوم اللّامعياريّة كما طرحه إميل دوركايم في كتابه الإنتحار، يحيل إلى تلك الحالة الّتي ينهار فيها النّسق القيمي والمعياري الذي ينظم العلاقات والسّلوكيات، فيغدو الفرد بلا بوصلة إجتماعية. ينشأ هذا التّفكك حين تفقد المؤسّسات الإجتماعية (الأسرة، المدرسة، الدّولة، الدّين…) قدرتها على إنتاج المعنى وضبط الفعل الإجتماعي. حيث أنّ المجتمعات، وعلى رأسها المجتمع الجزائري، قد مرت بتغيرات جذرية في العقود الأخيرة نتيجة لتأثيرات العولمة، ما أسفر عن تفكيك المعايير الإجتماعية التّقليدية الّتي كانت تتحكم في سلوك الأفراد. في الماضي، كانت هناك قيم ثابتة مثل مفهوم “العيب” و”الحرام” الّتي كانت تؤطر العلاقات الإجتماعية وتحدد ما هو مقبول وما هو مرفوض داخل المجتمع. ومع دخول المجتمع الجزائري في عصر الحداثة والعولمة، بدأت هذه القيم تتآكل تدريجيًا لتفسح المجال لأيديولوجيات فردانية، أيديولوجيات تركز على المطامح الشّخصية على حساب الضّوابط الجماعية.
هذه الفردانية المتصاعدة إنعكست على العلاقات الإجتماعية في الجزائر، حيث أصبح من الصعب على الأفراد التّفاعل ضمن إطار من القيم المشتركة. على سبيل المثال، في الماضي كانت العلاقات بين الأفراد داخل الأسرة والحي تعكس نوعًا من التّكافل الإجتماعي، حيث كانت قِيَم مثل “الكرم” و”الإحترام” تُعتبر أشياء مقدسة. لكن الآن، مع إنتشار ثقافة العولمة، أصبحنا نرى المزيد من العُزلة النّفسية والإجتماعية بين الأفراد، حتى في نفس الأسر. “البُعد عن العائلة” أصبح جزءًا من الحياة اليومية للكثير من الشّباب الذين يبحثون عن فرص أكبر في المدن الكبرى أو في الخارج.
في السّياق الجزائري، تجلّت اللّامعياريّة بعدة أشكال:
1/التّفكك القيمي: ما عادت القيم التّقليدية (الكرم، الشّرف، الجماعة، الصّدق…) تشتغل بنفس القوة. لقد جُردت من عمقها الجماعي، وأصبحت عرضة للتّسليع والإستهلاك. الشّاب اليوم يتردّد بين خطاب المسجد وخطاب التّيك توك، بين العمّة التي تحثه على الزّواج، والصّديق الذي يقنعه بالهجرة السّرية.
2/سقوط المثال الأعلى: حين يرى المواطن أنّ من يرتقي في المجتمع ليس بالكفاءة أو النّزاهة، بل بالولاء، أو الفساد، أو النّفاق، تنهار المنظومة الرّمزية التي تجعله يؤمن بعدالة الجُهد والمعنى. يشعر الفرد أنه لا جدوى من الإلتزام، لأن القيم لم تعد مربحة إجتماعيًا.
3/غياب اليقين الجماعي: الجزائري، اليوم، يتخبط في فراغ معرفي وسياسي، لا يثق بالمؤسّسات، ولا بالنّخب، ولا بالإعلام، ولا حتى بـ”الوطن” كرمز جامع. هذا الفراغ يخلق هشاشة في الذّات، تدفعها إلى الإنكفاء واللّامبالاة.
///// الإنسحاب الإجتماعي: موت “نحن” وصعود “أنا” المتوحشة!
سنحاول إبراز معمى الإنسحاب الإجتماعي و المظاهر النّفسية له والتّحديات الثّقافية الّتي تواجهنا
إنّ ظاهرة الإنسحاب الإجتماعي تشكل واحدة من أبرز التّجليات الّتي يعاني منها المجتمع الجزائري في هذه المرحلة الفارقة. مع تفشي الأزمات الإقتصادية والإجتماعية، وإرتفاع معدلات البطالة والفقر، فقد العديد من الأفراد شعورهم بالإنتماء الإجتماعي والمشاركة الفعالة في بناء المجتمع. هؤلاء الأفراد الذين أصبحوا يشعرون بالإغتراب عن محيطهم الإجتماعي يجدون أنفسهم في مواجهة مع أزمات نفسية ومعنوية عميقة، مما يعزز من فكرة الإنسحاب الإجتماعي كوسيلة للهروب من واقع مرير.
إن ظاهرة الإنسحاب الإجتماعي ليست مجرّد موقف فردي، بل هي إنعكاس مباشر لأزمة جماعية تعيشها الأمّة. عندما يفقد الفرد الثّقة في قدرة المجتمع على توفير الفرص والتّحديات الّتي تستحق، وعندما يتأثر بشكل عميق بالحالة الإقتصادية والسّياسية الّتي يمر بها البلد، يصبح الإنسحاب الإجتماعي بمثابة ردّ فعل طبيعي للبحث عن مخرج نفسي وعاطفي. في هذا السّياق، يبرز مفهوم “الأمراض النّفسية المُعقدة” كأحد أبرز مظاهر هذه التّحولات. فلا يقتصر تأثير هذه الأمراض على الأفراد فقط، بل يمتد ليؤثر على المجتمع ككل، مما يساهم في تشكيل جيل جديد ينشأ دون علاقة حقيقية بثوابته الإجتماعية والثّقافية إنّ الإنسحاب الإجتماعي هو أحد أكثر مظاهر الأزمة وضوحًا في الجزائر اليوم. هو ليس فقط إنسحابًا من الفعل السّياسي أو النّشاط المدني، بل إنسحاب من الإحساس بالمجتمع ذاته. الفرد الجزائري لم يعد يرى أنّ “الآخر” جزء من عالمه. المشهد اليومي يؤكد هذا التّفكك: القمامة في الشّوارع، الإهمال في المدارس، غياب التّكافل بين الجيران، العزوف عن المشاركة لقد تحوّل الفرد إلى ذات مفرغة، يائسة، تسكن فضاءً غير مشترك. في هذا السّياق، تُفهم الفردانية الجزائرية ليس بوصفها تحررًا ليبراليًا كما في الغرب، بل كردّ فعل دفاعي على تآكل المعنى وفقدان الأمل. إنها فردانية الخوف والهروب، لا فردانية الحرية والمبادرة ،يستطيع زيغمونت باومان أن يفسر هذا عبر مفهومي “السّيولة الإجتماعية” و”الهوية الهشة”، بينما يُمكن لـبورديو أن يعزوه إلى فقدان الرّأسمال الرّمزي وضعف التّأطير المؤسسي، مما جعل الفرد يتراجع إلى قوقعته الخاصة، غير معنيٍّ بالبناء الجماعي.
يتجلى الإنسحاب الإجتماعي في تآكل الرّوابط الإجتماعية اليومية: لا أحد ينظف أمام بيته، لا أحد يسأل عن جاره، لا أحد يهتم بمصير المدرسة العمومية، أو مصير الحي. إنها حالة من الإنفصال عن الحس الجماعي. فـ”الدّوار” الذي كان يقوم على التّضامن والحميمية أصبح خاضعًا لمنطق “كل واحد يدبّر راسو”. ما الذي حصل؟
1/ من الجماعة إلى الذّات المستنزفة: لقد أنتج الإقتصاد الرّيعي والمجتمع البيروقراطي ذاتًا متلقية، غير فاعلة، تربّت على أنّ الدّولة هي “المانح”، والمجتمع هو “الطّالب”. وحين توقفت الآلة الرّيعية عن الإستجابة، غرق الفرد في العجز، وتحوّل من كائن إجتماعي إلى مجرّد مستهلك مهزوم.
2/. فردانية مشوّهة لا ليبرالية: ليست الفردانية الجزائرية ناتجة عن تحرر أو نضج، بل عن الخذلان. إنها فردانية دفاعية، لا مشروع لها سوى النّجاة الفردية: “ما يهمّنيش”، “أنا ندبّر راسي”، “ماشي شغلي”. هذه العبارات اليومية تعكس إنحسار الإحساس بالجماعة وتحوّل المواطن إلى لا مبالٍ رمزيًا.
3/ العُزلة كآلية دفاع: الإنسحاب الإجتماعي قد يكون أيضًا رد فعل على إنسداد الآفاق، على شعور الفرد بعدم القدرة على التّأثير أو التّغيير. في مجتمع لا يُكافأ فيه العمل، ولا تُحترم فيه الكفاءة، تصبح العزلة ملاذًا نفسيًا، لكنها تفضي إلى موت الفعل الجماعي.
إن ظاهرة الإنسحاب الإجتماعي في المجتمع الجزائري تُعد إحدى أبرز المظاهر النّفسية والإجتماعية النّاتجة عن اللّامعياريّة المتزايدة. إن ظاهرة العُزلة الإجتماعية ليست مجرّد ظاهرة فردية، بل هي إنعكاس مباشر لأزمة جماعية يعيشها المجتمع الجزائري في ظلّ الظّروف الاقتصادية الصّعبة. فمعدلات البطالة والفقر المرتفعة أدت إلى إنتشار شعور الإغتراب لدى العديد من الأفراد، وبالأخصّ في صفوف الشّباب.
على سبيل المثال، نجد أن الكثير من الشّباب الجزائري، خاصة في المناطق الدّاخلية والجنوبية، أصبحوا يعانون من فقدان الأمل في الحصول على فرص عمل، مما يدفعهم إلى الإنسحاب من الحياة الإجتماعية والإنغلاق في دوائرهم الخاصة. هذه الظّاهرة لا تقتصر على فئة معينة، بل تشمل كلّ الطّبقات الإجتماعية، حيث يشعر الجميع بالضّياع وعدم القدرة على التّأثير في مجريات الأمور. وقد أظهرت بعض الدّراسات السّوسيولوجية أنّ العديد من الشّباب الجزائري يلجأون إلى العُزلة الإجتماعية أو الهجرة إلى الخارج بحثًا عن فرصة لتحقيق الذّات بعيدًا عن الأزمات المحلية.
///// مقاربات سوسيولوجية متعددة لفهم الظّاهرة:
إميل دوركايم يفسر اللّامعياريّة كنتيجة لإنهيار التّضامن الإجتماعي، خاصة التّضامن الآلي الذي كان يطبع المجتمعات التّقليدية. في الجزائر، نجد أن ما تبقى من هذا التّضامن لم يُعوّض بتضامن عضوي حديث، ما جعل المجتمع يعيش بين حالتي الإنهيار والفراغ.
بيار بورديو يمكن أن يفسر هذه الظّواهر بضعف الرّأسمال الرّمزي والثّقافي. حين لا تجد المدرسة ولا العائلة ولا الإعلام أدوات لإنتاج الهيبة والمعنى، يتحوّل الفعل الإجتماعي إلى طقوس خاوية، ويفقد الأفراد حافز الإنخراط.
زيغمونت باومان في كتبه حول الحداثة يرى أن المجتمعات المعاصرة تعيش في “حداثة سائلة”، حيث لا شيء ثابت أو مستقر. في الجزائر، هذه الحداثة لم تكن متدّرجة أو عميقة، بل جاءت مشوّهة، عبر التّكنولوجيات، لا عبر التّربية أو التّراكم الثّقافي، ما أدى إلى فراغ في الهوية الجماعية.
نظرية التّهميش تفسر الإنسحاب الإجتماعي كنتاج شعور دائم بالإقصاء من دوائر القرار، من الإعتراف، ومن الفعالية الإجتماعية. الجزائري الذي لا يملك سلطة على حياته اليومية، ينكفئ على ذاته في صمت.
/ أمثلة واقعية من جزائر اليوم !
كان المجتمع الجزائري يُبنى على شبكات تضامن قوية، تبدأ من “الدّوار” و”الجماعة” وتنتهي في “الوطن”. أما اليوم، فقد تمزقت هذه الشّبكات، نتيجة للسياسات الإقتصادية الرّيعية، والفساد المؤسّساتي، وغياب العدالة، وتفشي الرّداءة في المناصب العامة.
لم تعد الأسرة ملاذًا أخلاقيًا، ولا المدرسة فضاء للتّرقي الرّمزي، ولا الدّولة راعية للثّقة. وبهذا، لم تعد الهوية الجزائرية مشروعًا مشتركًا، بل عبئًا يحاول البعض التّخفف منه عبر الإنسحاب، الهجرة، أو الإنغلاق على الطّائفة، القبيلة، أو الذّات الفاقدة للأمل.
حي سكني في العاصمة: القمامة تملأ الزّوايا، رغم وجود شباب في الحي، لكن لا أحد يتطوع. السّؤال: لماذا؟ الجواب: “ماشي شغلي”.
مدرسة إبتدائية: الأستاذ منهك، التّلميذ لا يُحترم القسم، والأهل غير معنيين، بل بعضهم يتعامل مع المدرسة كعبء لا بد من تجاوزه.
شاب جامعي: يحمل شهادة، لكنه لا يصوّت، لا يشارك في جمعيات، لا يهتم بما يحدث في البلاد. يقول: “بلاد ميّتة”، ثم يسافر إلى تركيا ليعمل نادلاً.
الحي الشّعبي الذي تكسوه القمامة: في السّابق، كان “الجار يعيب على جارو”. اليوم، تُرمى القمامة على الأرصفة، والجميع يمرّ دون أنّ يحرّك ساكنًا. لقد مات الشّعور بالإنتماء إلى المكان.
الشّاب الذي لا يصوّت ولا يشارك: لا لأنه سلبي بطبعه، بل لأنه لم يعد يؤمن بجدوى المشاركة. الإنسحاب من السّياسة إمتداد لإنسحاب من المجتمع ككلّ
المدرسة المهملة: المؤسسة التّربوية الّتي كانت مكانًا للإرتقاء، أصبحت حقلًا للهروب. المُدرس محبط، التّلميذ بلا أفق، والمجتمع لا يراها مشروعًا جماعيًا.
خاتمة: نحو إعادة بناء الإجتماع الجزائري !
إنّ ما يعيشه المجتمع الجزائري من تحوّل نحو اللّامعياريّة والإنطواء الإجتماعي يمثل أزمة حقيقية على مستوى الهوية والقيم. لكنها أيضًا فرصة لإعادة التّفكير في الإجتماع الجزائري ، وفي سبل إحيائه ، وبالتّالي فإن إعادة بناء الهوية الجماعية في الجزائر يجب أنّ يكون من خلال المُزاوجة بين الحداثة والتّمسك بالجذور الثّقافية. يجب على الجزائر أنّ تتبنى هوية جماعية جديدة قادرة على التّكيف مع التّحديات العصرية دون التّفريط في موروثاتها الثّقافية والإجتماعية.
يحتاج هذا المجتمع إلى مشروع قيمي جامع، لا يستورد القيم كما هي، بل يعيد بناءها إستنادًا إلى جذوره الحضارية وواقعه المعيش. المطلوب ليس فقط إصلاح السّياسة أو الإقتصاد، بل إعادة بناء الذّات الجزائرية فردًا مؤمنًا بالآخر، ومجتمعًا حاملاً لمعنى مشترك ،إننا نحتاج إلى تربية جديدة، إلى إعلام عقلاني، إلى نخب تحمل همّ المعنى لا فقط المناصب. فالمجتمع الذي لا ينظف شوارعه، ولا يثق بجيرانه، ولا يحلم مع أطفاله، لن يصنع مستقبلًا، حتى لو بنى ألف طريق سيّار،ما نعيشه في الجزائر ليس فقط أزمة إقتصادية أو سياسية، بل أزمة في الإجتماع ذاته. إنّ زوال المعيار وضمور الحس الجماعي ينذران بمستقبل إجتماعي هش، يتطلب أكثر من مجرّد إصلاحات تقنية. نحتاج إلى إعادة بناء الثّقة إلى ردّ الإعتبار للمعنى إلى تربية مدنية جديدة، لا تقوم فقط على حفظ القوانين، بل على إستعادة الإحساس بأننا مجتمع، لا مجرّد أفراد متجاورين. من دون ذلك، لن تكون الدّولة قوية، ولن يكون المواطن فاعلًا، بل سنبقى مجرّد شظايا بشرية تبحث عن الخلاص في العُزلة أو في المطار.
إنّ المجتمع الجزائري اليوم يعيش في مرحلة فارقة من التّحولات الإجتماعية والثّقافية الّتي أثرت بشكل كبير على معاييره الجماعية وهويته. إنّ ما نراه من لامعيارية وإنسحاب اعجتماعي ليس مجرّد تحوّل فردي، بل هو مؤشر على أزمة جماعية تتطلب التّفكير العميق والنّقد السّوسيولوجي المستمر. قد تحمل هذه الأزمة في طياتها فرصًا لإعادة البناء، ولكنها تتطلب إرساء رؤية جديدة للهوية الجماعية الّتي يمكنها التّكيف مع العولمة دون التّفريط في موروثاتها الثّقافية. ومن خلال التّحليل السّوسيولوجي لمختلف هذه الظّواهر، يمكننا أنّ نستنتج أن إعادة بناء المجتمع الجزائري يتطلب توازنًا دقيقًا بين الحداثة والجُذور الثُقافية، مع التُأكيد على أهمية التُضامن الإجتماعي والإستمرار في تطوير هوية جماعية جديدة ومتكاملة …






































