الجامعة بين المهمة والرسالة: مقاربة سوسيولوجية لأزمة إنتاج المعرفة وتحطيم الكفاءات
مقدمة
تُعد الجامعة مؤسسة محورية في تشكيل النخب وصناعة الوعي الجماعي، فهي ليست مجرد فضاء لنقل المعارف وإنما منظومة شاملة تتولى إعداد الإنسان المفكر، وصاحب المشروع، والمشارك في التحولات الاجتماعية والثقافية والسياسية. غير أنّ الجامعة الجزائرية، رغم توسّعها الكمي، ما زالت عاجزة عن أداء دورها الحيوي، وغارقة في تناقضات بنيوية تجعلها تعيد إنتاج نفس الفشل وتساهم – بطريقة غير مباشرة – في تدمير الكفاءات. هذه الورقة تحاول تفكيك هذه الظاهرة من منظور سوسيولوجي تحليلي، من خلال الربط بين المهام الجوهرية للجامعة، والتحوّلات الرمزية والوظيفية التي طرأت عليها، واستدعاء بعض المقاربات النظرية لفهم الانحراف الحاصل بين الرسالة والأداء الفعلي.
الجامعة كنسق وظيفي: من تكوين النخبة إلى إنتاج الرداءة
في تصور تالكوت بارسونز، تلعب الجامعة دورًا مركزيًا في الحفاظ على النسق الاجتماعي من خلال ما تؤديه من وظائف: التنشئة الاجتماعية للنخب، إنتاج المعايير العليا، وتوفير الكفاءات التقنية والإدارية اللازمة. غير أن ما نشهده في الجامعة الجزائرية هو اختلال واضح في هذه الوظائف؛ حيث باتت المؤسسة الجامعية تعاني من انكماش وظيفي يجعلها تتخلى عن أدوارها الحيوية لتتحول إلى جهاز إداري بيروقراطي.
على سبيل المثال، أصبح تقييم الأداء الجامعي يتم من خلال عدد الشهادات الممنوحة أو عدد المقالات المنشورة في مجلات محلية ميتة، بدلًا من نوعية الأفكار المنتجة أو الأثر الفعلي للبحوث. وهذا يترجم “أزمة الفعالية” التي تجعل من الجامعة فضاءً لإنتاج الشرعية الشكلية لا المعرفية، مما يضعها في موقع هشّ أمام التحولات الاجتماعية التي تتطلب قدرة حقيقية على التفكير النقدي والتحليل البنّاء.
الجامعة كمجال لإعادة الإنتاج الرمزي: من المعرفة إلى الطاعة
يُعد تصور بيير بورديو حول الحقل الأكاديمي أداة حاسمة لفهم كيف تتحول الجامعة إلى جهاز لإعادة إنتاج نفس البنية الثقافية والاجتماعية السائدة. فالجامعة لا تشتغل فقط على مستوى المعرفة، بل تقوم – وفق بورديو – بإعادة إنتاج “رأس المال الرمزي” الذي يتحكم في من يملك الشرعية لإنتاج المعنى والمعرفة.
في الجزائر، يتجلى هذا في آليات الترقيات الجامعية، وتوزيع مشاريع البحث، واختيار المواضيع المقبولة. غالبًا ما تُقصى الأفكار الجريئة، ويُعاد تأهيل الأفكار المألوفة حتى لو كانت عقيمة. فطالب الدكتوراه الذي يتناول مواضيع حساسة أو يُوظف مقاربات نقدية يُتهم بعدم النضج الأكاديمي، بينما يُكافأ من يكرّر ما قاله السابقون بصياغة تقليدية.
بهذا المعنى، تتحول الجامعة إلى فضاء مغلق لإعادة إنتاج الفكر المُؤسّس على الطاعة، بدلًا من أن تكون مجالًا مفتوحًا للإبداع والمساءلة، ما يُفضي إلى حالة “انسداد رمزي” تتجلى في غياب التجديد المعرفي، وتكرار نفس الرسائل الجامعية دون أي أثر حقيقي في الواقع.
الجامعة كأداة للضبط بدلًا من التحرير: المقاربة النقدية كمفتاح فهم
من منظور المقاربة النقدية، كما طرحها باولو فريري وامتداداتها المعاصرة، فإنّ التعليم يجب أن يكون أداة لتحرير الإنسان من البنى القهرية، لا وسيلة لإعادة إنتاجها. لكن الجامعة الجزائرية، على العكس، تمارس نوعًا من “القمع الرمزي الناعم”، عبر ما يسميه فريري بـ”التعليم البنكي”، حيث يُنظر إلى الطالب كوعاء يُملأ بدل أن يكون فاعلًا.
فالتكوين يتم غالبًا من خلال المحاضرة الخطية، والتقييم يتم عبر امتحانات تكرارية لا تقيس التفكير النقدي، مما يجعل الطالب متمكنًا من اجتياز النظام، لا من فهم الواقع أو تغييره. بل إن من يجرؤ على انتقاد النظام يُتهم بالمشاكسة، أو يُقصى من الفضاءات الأكاديمية، بما يعكس منطق السيطرة بدل منطق الشراكة التربوية.
هذا ما يُفسّر ظاهرة الخوف المنتشر لدى كثير من الطلبة من “إبداء الرأي”، أو نشر مقالات، أو مناقشة الأساتذة. فقد تحوّلت الجامعة من فضاء للحرية إلى فضاء للرقابة النفسية والعلمية، يراقب فيه الأستاذ الطالب، ويراقب الطالب نفسه حتى لا يتجاوز الخطوط الحمراء الرمزية.
تحطم الكفاءات: الجامعة كجهاز طارد للعقول
في ظل هذه البنية المعطوبة، ليس غريبًا أن تتحول الجامعة إلى أداة لتحطيم الكفاءات لا لصناعتها. فالمبدع يهمّش، والجريء يُخضع، والطامح يُنهك. تظهر هذه الأزمة في تزايد عدد الكفاءات التي تغادر الوطن أو تتجه نحو القطاعات غير الأكاديمية، حيث يشعر الباحث أنه مطرود من الفضاء الذي يفترض أن يحتويه. وقد أظهرت دراسة ميدانية أجريت على عيّنة من طلبة الدكتوراه في الجزائر الوسطى أن أكثر من 70% منهم يشعرون بعدم الحافز لمواصلة البحث الأكاديمي داخل الجامعة، بسبب هيمنة البيروقراطية وضعف التقدير الرمزي والاجتماعي.
الجامعة كمسرح تفاعلي: التحليل الرمزي لطقوس التقييم
من زاوية المقاربة التفاعلية الرمزية (إرفنغ غوفمان)، يمكن النظر إلى الجامعة بوصفها “مسرحًا اجتماعيًا”، حيث تُؤدى أدوار محددة داخل قاعة الدرس، ومناسبات المناقشة، وطقوس التقييم. في هذا السياق، يأخذ التفاعل بين الطالب والأستاذ طابعًا شكليًا، حيث يتمسك كل فاعل بدوره الرمزي: الأستاذ هو المتكلم المطلق، والطالب هو المستمع الدائم.
وفي طقوس مناقشات الدكتوراه، يتم غالبًا الانتقال بين الثناء الشكلاني على “مجهودات الطالب”، والسخرية من “ضعف منهجيته”، وهو ما يكشف عن أزمة عمق في تصور الفعل الأكاديمي ذاته. فالمناقشة تُمارَس بوصفها سلطة رمزية لا بوصفها شراكة معرفية. وهنا تظهر مفارقة: من يفترض أنه يُقيّم، لا يفعل سوى إعادة إنتاج سلطته الثقافية.
خاتمة: الجامعة التي لا تُراجع ذاتها، تعيد إنتاج هزيمتها
إن الأزمة التي تعيشها الجامعة الجزائرية اليوم ليست في برامجها فقط، بل في رؤيتها لدورها، وفي الذهنية التي تُسيّر بها علاقاتها. فالجامعة التي لا تطرح أسئلة على ذاتها، ولا تفسح المجال للمغاير، ولا تحمي الجريء، تتحول إلى مؤسسة لإعادة إنتاج الهزيمة الثقافية والفكرية.
وليس من المبالغة القول إنّ إنقاذ الجامعة اليوم لا يتم عبر الإصلاح الإداري أو الرقمنة الشكلية، بل عبر تحريرها من منطق السلطة، وإعادتها إلى منطق الرسالة. وحدها الجامعة التي تضع “الحرية الأكاديمية” في قلب مشروعها، وتربط المعرفة بالعدالة، وتُقيم الجدارة على الكفاءة لا على الولاء، تستطيع أن تفتح أفقًا جديدًا، وتُنتج مجتمعًا حرًا منغرسًا في المعرفة لا في الامتثال.
بقلم: كريم بوخالفة باحث في علم الاجتماع
“في زمن الرداءة المؤسسية، يصبح التفكير فعل مقاومة، وتصبح الجامعة ساحة معركة رمزية بين الماضي والممكن.”






































