كتب … حميد بركي
رحلة …
مستلقيًا على ظهري فوق سطح البيت، أتوسّد مخدةً من صمت اللّيل، والهواء يمرّ على وجهي كأنّه يقرأ أفكاري الهائمة، النّجوم فوقي، تلألأ مثل عيونٍ معلّقة في السّماء، ترمش في سكون، تُنصت لهمسي دون أن تردّ، وأنا أراقبها كأنّني أبحث عن إجابة لشيء لا أعرفه، وفي لحظةٍ نادرة، تَوقّف الزّمن بين نبضتين… لحظة سربٍ من العصافير ينهمر من السّماء، كأنّه إنفلت من حيث لا أدري ، يضيء بجناحيه ليل الكون، مما جعل ما شاهدته يغمرني بدهشةٍ لا توصف، وهي ترقص بين ذرات الهواء، كأنّها تعزف لحنًا لا تسمعه إلا الأرواح، أحدها إقترب، وقف على صدري كما يقف السّؤال على قلب الشّاعر، ثم نظر إليّ بعينين ليستا عينَي طائر… بل نافذتين إلى مكان آخر، لم يتكلم، لكنّ صوته إرتفع بداخلي كأن قلبي هو من أنطقه:
“هل أنت مستعد لتذكّر ما نُسي؟”
ولم أنتظر الجواب. شعرت أنّي أذوب من وزني، كما لو أنني أمنيةً بلا جسد. فجأة، إرتفعت… وقد طُوِيت الأرض من تحتي، وكأن الوجود إنكمش إحترامًا لرحلةٍ لا تكون إلا مرة في العمر،
كلّ شيء صار بعيدًا: البيوت، الأشجار، حتى إسمي.
ومضت العصافير بي إلى الأعلى، تخترق الغيوم كما يخترق الحلم جدار اليقظة، عندها رأيت القمر قريبًا، لا كجرمٍ سماوي، وإنّما قد ترائ لي كوجهٍ حزين كان ينتظر زائرًا. وكانت النّجوم تلوّح لي بأصابع الضّوء، تفتح أبوابها كأنّها تريد أن تبوح لي بسرٍّ قديم.
ثم فجأة، شقّت السّماء نفسها، وإنفتحت بوابة، لا لون لها، لا شكل، ولكنّها واضحة كما لو أنّها خُلقت لي وحدي. دخلنا منها، وهناك… وجدت عالمًا لا يشبه الأرض.
رأيت أرضًا من البلور، تبكي نورًا إذا مشت عليها خطوات السّكون الأشجار هناك لا تثمر تفاحًا، بل تثمر أفكارًا، كل غصن يحمل حكمة، وكل ورقة تُحدّثك عن شيء نسيناه. الماء لا يجري في الأنهار، وهو يطير في الهواء، رقراقًا كالحلم. رأيت بيوتًا من ضوءٍ يسكنه الأمل.
ثم جاءتني إمرأة، أو ربّما كانت كائنًا من صفاء، شعرها ينسدل كخيوط الفجر، وعيناها تتقاطع فيهما المجرّات كأنّهما مرآة لكل ما كان وكل ما سيكون، لم تتكلم بشفتيها، بل بحضورها، وهي تقول لي دون صوت:
“لقد إخترناك لتكون رسول الذّكرى، لأنّ البشر غفوا عن الحقيقة. عُد إليهم، لا لتعلّمهم، بل لتوقظ ما دفنوه في أعماقهم “
إقترب مني طائرٌ من السّرب، ونقر جبيني برفق، حتى شعرت أن الضّوء قد إندلق بداخلي. وفي لحظة، كنت من جديد على سطح البيت، النّجوم فوقي، المخدة تحت رأسي، واللّيل في مكانه… لكنّني لم أعد أنا.
منذ تلك اللّيلة، لم أنظر للسّماء كما كنت. صارت السّماء لي مرآةً تعكس قلبي. وصار اللّيل دفترًا أكتبه بنور العصافير. منذ تلك الرّحلة، وأنا أحمل سرًّا لا يُقال، لكنّه يُشعّ في نظراتي، في كلماتي، في صمتي… وكأنّ قلبي صار من ذلك العالم، وإنّ بقي جسدي هنا.
لقد عُدت… لكنّ شيئًا مني لم يرجع.
كتب … حميد بركي






































