الكتابة:
من كتب رياء أُهين، ومن كتب فخرا ذلّ، أما من أخلص قلمه لله، رفع مقامه وجعل حرفه في الذّاكرين ، فما كان لله دام ونفع، وما كان لغيره زال واندثر.
حين تكتب رياء، فإنك لا تخاطب الحقيقة، بل تخاطب مرآة زائفة صُنعت من أنظار النّاس، تصوغ حرفك لا ليكون ضوءًا، بل ليعكس وهجًا مصطنعًا. والمرائي في الكتابة لا يكتب، بل يتقمص دور الكاتب، يزخرف القول كما يُزخرف الكفن، يواري به خواء الرّوح، ويُجمّل به قبح الغرض. فتُصبح الكتابة تمثيلًا، لا تجليًا، ويُصبح النّص قناعًا لا وجهًا. والكتابة، حين تفقد صدقها، تفقد شرفها، لأنها تخرق قدسية الكلمة الّتي هي في أصلها خلقٌ رباني، أول ما خُلِق من أدوات التّعبير عن الوجود. فيُهان صاحبها وإن عُظّم، ويُنسى وإن احتُفي به، لأن ما كُتب للعرض يَفنى عند انطفاء الأضواء.
وحين تكتب فخرًا، وتتوهم أنك تتوج ذاتك على عرش اللّغة، فإنّك لا تعلو، بل تُسقط نفسك في هاوية الوهم. الفخر في الكتابة يُفسد الجوهر كما يُفسد الرياء القصد، لأنه يُحيل الحرف من مرآة للمعنى إلى مرآة للأنا. والكبرياء في القول لا يُنجب فكرًا، بل يُنجب صدى متعجرفًا، مشوه المعالم، فاقد التّأثير. إنّ الذّات حين تتورم داخل النّص تُقصي المعنى الأسمى، وتُحيل كل فكرة إلى عبودية للكاتب لا للحق. لذلك، فإن الكتابة المتعالية تُذل صاحبها، لأنه يستمد قيمته من ذاته المحدودة، لا من الرّسالة التي يحملها. وكل كاتب جعل من نفسه مركز المعنى، سقط في عبادة النّفس، وهي أعتى صور الضّلال.
أما حين تكتب في سبيل اللّه، فأنت تدخل مقامًا آخر، مقام التجرد، مقام الحرية الحقيقية التي لا تُقيدها الأهواء ولا تقودها الرّغبات. أنت تكتب حينئذ من نقطة التّلاقي بين العقل والرّوح، بين الوحي الدّاخلي وصوت الضّمير، وتُصبح الكتابة فعل عبادة، لا فعل مهنة أو رغبة في الخلود الزّائف. من يكتب لله لا يكتب بمداد الحبر فقط، بل يكتب بنور البصيرة، يزرع الكلمات كما تُزرع القيم، ويصوغ الجمال كما يُصاغ اليقين. يكتب لا ليُعجب، بل ليُنقذ، لا ليُصفق له، بل ليُضيء لغيره. وكل حرف كُتب في سبيل الله إنما هو قطرة في نهر الحكمة الإلهية، لا تموت ولا تتيه، بل تصل حيث يُقدّر لها أن تصل، ولو بعد قرون.
الكتابة في حقيقتها ليست مهنة، بل موقف، ليست حرفة، بل خيار وجودي. هي مرآة الوعي، وامتحان النّية، ومعيار الصّفاء. وما بين الرّياء والفخر والنّية الصافية تتمايز المقامات، وتُوزن الأعمال. الكاتب الصّادق لا يُهمه موضع اسمه، بل موضع أثره. لا يُطيل الوقوف عند التّصفيق، بل ينظر إلى الصّدى الّذي يتركه في ضمير القارئ وفي ميزان الغيب. أما من جعل من الكتابة وسيلة لبناء مجده الذّاتي أو لترسيخ حضور وهمي، فقد خسر الحقيقة، وإن ربح الواجهة.
وفي النّهاية، تظل الكلمة التي تُكتب لله أشبه بذرة في تربة خفية، لا يراها النّاس، لكنها تنبت، وتثمر، وتزهر في وقت يعلمه الله، لا الكاتب. وتلك هي عزة الكاتب الحق، لا أن يُقال عنه، بل أن يُبارك قلمه، أن يُسخَّر قلمه لما يُرضي الخالق، لا المخلوق. فليكن القلم فيضًا من نور، لا ظلًا لأنا، ولتكن الكتابة سجودًا من نوع آخر، سجود الحرف في محراب المعنى، حيث لا يُقبل إلا ما كُتب بصدق، وسُكب إخلاصًا، وفُهم تواضعًا.
حميد بركي






































