التّاريخ والشّعر بين توثيق الحدث وأيديولوجية السّرد
يمثّل الشّعر أحد أقدم الوسائط الّتي لجأ إليها الإنسان لتسجيل الأحداث، وتدوين اللحظات الفارقة في حياة الجماعات والأمم، حتّى قبل ظهور الكتابة المنظمة. وقد لعب هذا الفنّ، في مختلف الحضارات، دورًا مهمًّا في الحفاظ على الذّاكرة الجماعيّة، ليس فقط من خلال توثيق الوقائع، بل عبر تحميلها شحنة وجدانيّة وفكريّة تُضفي على الحدث بعدًا إنسانيًّا وفلسفيًّا. وهنا تتقاطع طبيعة الشّعر مع التّاريخ، إذ يسعى كلّ منهما إلى قول “ما كان”، غير أن طرق القول، ودوافع السّرد، تتباين حدّ التّناقض أحيانًا.
فالشاعر لا يكتفي بسرد الحدث أو توصيفه، بل يعيد خلقه لغويًّا، وينحته من زوايا ذاتيّة، قد تكون منخرطة في الوجدان الجمعي أو منسجمة مع خطابه الخاص. بينما المؤرخ، من جهة أخرى، يسعى إلى اعتماد الحياد النّسبي، مستندًا إلى الوثائق والمصادر، متحاشيًا المبالغة أو التّخييل. لكن هذه الفروق لا تعني بالضرورة الانفصال، بل قد تكون الشّعريّة أحد منابع التّاريخ، لا بوصفها تسجيلاً محايدًا، بل بكونها مرآة تنعكس عليها تحوّلات الوعي الجمعي تجاه الحوادث. لذلك، لا يُنظر إلى الشّعر كوثيقة بالمعنى الكلاسيكي، بل كوثيقة مشحونة بالأيديولوجيا والانفعال، تصوغ الرّواية من منظور جماليّ قد يحجب بعض الحقائق ليكشف عن أعمقها.
وحين نستعرض الشّعر العربيّ مثلًا، نرى كيف تحوّل إلى ديوان العرب كما قال ابن عباس، إذ حفظ الحروب والمعاهدات والمفاخرات والهزائم، لكنّ هذا الحفظ لم يكن بريئًا أو موضوعيًّا، بل مشبعًا بالأيديولوجيا القَبَلية والانتماء والمصالح. فقد مجّد الشّاعر قومه وانتصر لرؤيته، وهاجم خصومه، فجاء السّرد موجّهًا لخدمة خطاب الجماعة. وفي العصر العباسي، تحوّل الشّعر إلى منبر للسلطة، يضفي المشروعيّة على حكم الخلفاء، ويبرّر سياساتهم، فغلب عليه أحيانًا الطّابع الدّعائي، مما يضعنا أمام “أيديولوجيا الشّعر”، أي تلك المواقف الضّمنيّة الّتي تُبنى داخل النّصّ، وتوجّه المتلقي، وتُخضع الحدث لمقاصد السّلطة أو المعارضة. (1)
وبذات السّياق، لم يكن الشّعر الأندلسي مثلًا بمنأى عن الأحداث، بل تجلّت فيه لحظات المجد والانكسار، وخلّد المآسي السّياسيّة والشّتات. إلّا أنّ التّلقي العربي اللاحق لتلك النّصوص تعامل معها كتمثيل للحسّ الجماليّ، دون استحضار السّياقات التّاريخيّة الّتي انبثقت منها. وهذا ما يجعلنا نعيد النّظر في العلاقة بين الشّعر والتّاريخ، بوصفها علاقة متشابكة لا يمكن فصلها في حقلين نقيضين، بل هما في تداخل مستمرّ، ينقل أحدهما عن الآخر، ويؤثّر فيه، ويوجّهه
وإذا أخذنا مثالًا من العصر الحديث، نجد أن شعر المقاومة الفلسطينيّة، مثلما تجلّى عند محمود درويش أو سميح القاسم، قد جمع بين التّوثيق والرّمز، إذ نحت الشّعر فيه ذاكرة جديدة للأرض والهوية، ليس من خلال سرد مباشر للنكبة أو المنفى، بل عبر تحويل تلك الأحداث إلى أسطورة، تتجاوز اللحظة الزّمنيّة لتسكن الوجدان الجمعي. وهنا تتجلّى الأيديولوجيا ليس فقط في الدّفاع عن قضيّة، بل في طريقة بنائها وإقناع المتلقّي بعدالتها. وهذا يؤكّد أنّ الشعر حين يلامس التاريخ، لا يكون ناقلًا فحسب، بل صانعًا للمعنى، ومنتجًا للهوية. (2)
إن الشّعر حين يُوظّف كتقنيّة سرديّة لتأريخ اللحظة، يظلّ مشوبًا بالرّؤية الذّاتيّة، لذلك لا يمكن اعتماده مرجعًا خامًا للتاريخ، بل ينبغي قراءته كمادة سرديّة محايثة، تعكس تصوّرات الشّاعر ومجتمعه عن الحدث. فهو جزء من السّرد العام للذاكرة، لكنّه لا يقف على الحياد، بل يصوغ ذاكرة انتقائيّة، تُبرز وتُخفي، تُكثّف وتُحمّل، بما يتماشى مع الرّؤية الجماليّة والهدف الإيديولوجي.
ولعلّ هذا ما دفع بعض المفكرين، كإدوارد سعيد، إلى التّأكيد على أهميّة فهم الخطاب الثّقافي والأدبي داخل سياقه السّياسي والاجتماعي، لأنّه لا يُنتج في فراغ، بل يتفاعل مع سلطة المكان والهويّة والتّاريخ. من هنا، فإنّ الشّعر التّاريخي لا يُفهم إلا ضمن سياق السّلطة الّتي أنتجته، أو الّتي يعارضها، وهو ما يجعلنا نقرّ بوجود علاقة مزدوجة بين توثيق الحدث في الشّعر، وتوجيه سرديّته بما يخدم أهدافًا تتجاوز مجرّد الحكي. (3)
في الختام، لا ينبغي النّظر إلى الشّعر الّذي يعالج الحدث التّاريخي كمجرد “قصيدة مناسبات”، بل كوثيقة رمزيّة تتطلّب قراءة مزدوجة، تستنطق ظاهر النّصّ وباطنه، تستجلي الحدث كما وقع، والحدث كما تَخَيّله الشّاعر. فبين توثيق الحدث وأيديولوجيا السّرد، يتحرّك الشّعر في منطقة وسطى، لا هي التّاريخ بمعاييره، ولا هي الخيال بمعزل عن الواقع، بل هي الجسر الّذي يربط الذّاكرة بالهويّة، والحقيقة بالتّأويل.
…
الهوامش
(1) طه حسين، حديث الأربعاء، الجزء الأول، دار المعارف، القاهرة
(2) محمود درويش، ذاكرة للنسيان، دار العودة، بيروت
(3) إدوارد سعيد، الثقافة والإمبريالية، ترجمة كمال أبو ديب، المؤسسة العربية للدراسات، بيروت
حميد بركي
المغرب






































