من الغُربة إلى القُربة: هويّة لغويّة وإنسانيّة في لسان الجلفة
بقلم: سيف الدين بوكفة
في عمق الجزائر، حيث تمتدّ السّهوب بين السّلاسل الجبليّة، وتنبسط الأرض في مزيج من القساوة والكرم، تتفرّد ولاية الجلفة بميزة لغويّة عجيبة، قد تبدو للغريب مجرّد لهجة، لكنّها في حقيقتها مرآةٌ لفلسفة حياة، ومرآةٌ لنفس جماعيّة لا تؤمن بالغُربة، بل تُصرّ على القُربة.
﴿ الغين الّتي أصبحت قافًا ﴾
ليست زلّة لسان ولا تبديلًا صوتيًّا اعتباطيًّا. في الجلفة، يتحوّل حرف “الغين” إلى “قاف” في كلمات بعينها، تحمل من المعاني ما يتجاوز قاموس اللغة إلى قاموس القيم.
“الغُربة” تصبح “القُربة”.
“الغريب” يُقال له “قريب”.
و”غار” – بما تحمله من حسد وانفعال – تُقال “قار”، وكأنّها تنزع من الكلمة حدّتها، وتُلطّف وقعها.
هذا التّحوّل لا يُمكن قراءته كمجرّد نطق محلّيّ؛ بل هو إعادة صياغة للواقع الاجتماعي، وتفسير خاص للعلاقات الإنسانيّة. إنّه إعلان غير مكتوب: “لا نُقصي أحدًا، لا نترك أحدًا يشعر بالغربة بيننا”.
﴿ فلسفة القُربة ﴾
حين يقول أهل الجلفة “ماكش غريب، راك قريب” فهم لا يجاملون، بل يُمارسون طبعًا متوارثًا.
القُربة في لسانهم ليست مجرّد ضيافة آنيّة، بل منظومة كاملة من السّلوك:
الباب يُفتح قبل السّؤال.
القِرى يُعدّ حتّى قبل طلب الضّيف.
الحديث لا يبدأ باللقب أو الأصل، بل بالعبارة الأشهر: “راك بين خيّوتك”.
ليس من الغريب إذًا أن تجد القادم من الشّمال أو الجنوب وقد ذاب في نسيج الجلفة، واختلط بأهلها حتّى صار واحدًا منهم، لغوًا وشعورًا ومقامًا.
﴿ اللغة كهوية ﴾
في زمن تتقارب فيه المدن شكلاً وتختلف روحًا، تبقى الجلفة محتفظة بـ”لسانها الأخلاقي”، الّذي يعيد للكلمة دورها في تشكيل الواقع لا في نقله فقط.
القاف هنا ليست حرفًا بديلًا، بل رسالة ضمنيّة تقول:
> “نُغيّر نطق الكلمة… لنُغيّر معناها، ولنُغيّر طريقة وجودك بيننا.”
﴿ خاتمة ﴾
في الجلفة، اللغة ليست أداة تواصل فقط، بل أداة تقارب. حرفٌ واحد يكفي لتحويل الغربة إلى قُربة، والبعيد إلى قريب، والنّزاع إلى صفاء.
هكذا يصوغ أهل الجلفة هويّة فريدة، ليس فقط في ألسنتهم، بل في قلوبهم.







































Discussion about this post