بقلم حميد بركي
حين يقول الشّاعر:
خلّي الكلمة تقطع كلامي
نولي من سكاتي نخاف
حيث أنا غ شوية من أحلامي
ومن همومي أنا بزاف
فهو لا يصف حالة عرضيّة أو لحظة عابرة، بل يعرض وجودًا ممزّقًا بين نقيضين: النّطق والانقطاع، الحلم والهمّ، التّعبير والعجز. فالشّاعر لا يتحدّث من موقع اليقين بل من عمق الحيرة، تلك الحيرة الّتي تشكّل الأساس الأوّل للفكر الفلسفي كما عند سقراط، حيث يبدأ الفهم من الاعتراف بالجهل والقلق. هذا التّمزّق اللغويّ الّذي عبّر عنه الشّاعر حين انقطعت الكلمة وانسحب الصّوت، يذكّرنا أنّ اللغة ليست فقط وسيلة للتواصل، بل أيضًا مرآة للداخل، أداة قد تُظهر لكنّها كذلك قد تعجز، وقد تُوجِع حين لا تسعف حاملها على البوح.
الخوف من السّكوت هنا ليس رهابًا من الفراغ الصّوتي، بل هو قلق من الصّمت حين يُصبح وجهًا للحقيقة، لأنّ الكلمة حين تنقطع، تكشف الذّات عن هشاشتها، فتغدو عارية أمام مرآة الوجود. وهذا ما يجعل السّكوت مرعبًا، لأنّه ليس مجرّد غياب للصوت، بل حضرة لحقيقة لا يمكن تسميتها. يرى مارتن هايدغر أنّ الصّمت شكل من أشكال الكشف، وأنّ اللغة حين تعجز، تبدأ الأشياء في الظّهور بلا غطاء، فيصبح الإنسان مكشوفًا للوجود، بلا وسائط ولا أقنعة (1). وهنا يُفهم خوف الشّاعر من سكوته، لأنّه يرى فيه لحظة افتضاح داخليّ
أمّا حين يقول: “أنا غ شوية من أحلامي”، فهو لا ينفي وجود الحلم، لكنّه يضعه في هامش الذّات، بينما الهمّ يحتلّ مركزها. وهذا توصيف وجودي عميق، يعكس التّفاوت بين ما يتمناه الإنسان في ذاته، وبين ما يعيشه فعليًّا، فالحلم عنده خيط رفيع، هامشي، في حين أنّ الهمّ كتلة ضخمة، تتلبّسه، تسكنه، تكاد تكون هويّته. هذه المفارقة هي ما وصفها نيتشه حين تحدّث عن مأساوية الوجود الإنساني، وكيف أنّ الإنسان مشدود دومًا بين طموح نحو الجمال والعلو، وبين ثقل الواقع وانحطاطه (2) الهمّ هنا ليس مجرّد مشكل عارض، بل هو تكوين داخليّ، شيء أقرب إلى الجذر. والشّاعر لا يقول إنّه يعاني من الهمّ بل إنّه “بزاف” من همومه، أي أنّ الهمّ قد صار كيانًا له. في هذا المعنى نكاد نلمس صدى لما عبّر عنه سارتر، حين اعتبر أنّ الإنسان مسؤول عن وجوده، وأنّ كلّ ألم وكلّ همّ، هو اختيار ضمني حتّى وإن لم يعِ الإنسان هذا. فالحرّيّة تولّد الهمّ، والوعي بالذّات يولد ثقلًا لا يمكن تفاديه (3) لكنّ الملفت أنّ الحلم لم يُمحَ، وإن قلّ، وهذا ما يعطي النّصّ قيمته الوجوديّة العميقة. لأنّ الشّاعر يعترف أنّه لا يزال يحتفظ بجزء من الحلم، ولو كان صغيرًا، وهذا الجزء القليل هو ما يمنحه صفة “الإنسان”. الإنسان كما هو عند الفلاسفة الوجوديين ليس كائنًا مكتملاً، بل مشروع دائم، يعيش في صراع بين ما هو كائن وما يجب أن يكون، بين الممكن والمتحقّق، بين الأمل والألم، الصّياغة الزّجليّة تضيف بُعدًا آخر للطرح الفلسفي، إذ إنّها تعيد الفلسفة إلى قلب الإنسان البسيط، وتُلبس المعاني المجرّدة لغةً يومية نابعة من الشّارع ومن التّجربة الحيّة. وهذه العودة إلى البسيط ليست تقليلًا من عمق النّصّ، بل تعبير عن أنّ الفلسفة لا تسكن فقط الكتب، بل تسكن الحناجر المتعبة، والقلوب المثقلة، والكلمات الّتي قد لا تُقال. هذا ما يجعل الزّجل هنا ليس مجرّد أدب شفهي، بل أداة تأمّل في الوجود الإنساني، في تمزّقه وتطلّعه، في ضعفه وإصراره على النّطق. لقد ألمح جاك دريدا إلى أنّ اللغة، خصوصًا حين تكون شفويّة، تنطوي على أثر الغياب، فكلّ قول يحمل في طيّاته ما لم يُقل، وكلّ كلمة تخفي ظلّ ما لا يمكن التّعبير عنه (4). وهنا يتجلّى جوهر الزّجل، لا كفن بل كحضور فلسفيّ متوتّر ومفتوح.
في نهاية المطاف، يمكن القول إنّ النّصّ يضعنا أمام سؤال وجودي جوهري: من نحن حين تصمت الكلمات، وحين تضيع الأحلام؟ هل نحن ما نتمنّاه أم ما نحمله من ألم؟ وهل الصّمت ملاذ أم محنة؟ أسئلة لا تجيب عنها الكلمات، بل تظلّ مفتوحة، تشتغل في دواخلنا كما يشتغل الهمّ في وجدان الشّاعر.
…..
الهوامش والمراجع:
(1) هايدغر، مارتن: الوجود والزّمان، ترجمة فتحي المسكيني، المركز الثّقافي العربي.
(2) نيتشه، فريدريك: ولادة التراجيديا، ترجمة جورج كتورة، المنظّمة العربيّة للترجمة.
(3) سارتر، جان بول: الوجود والعدم، ترجمة جورج طرابيشي، دار الآداب.
(4) دريدا، جاك: الكتابة والاختلاف، ترجمة سعيد بنكراد، المركز الثّقافي العربي.
(5) فيتغنشتاين، لودفيغ: رسالة منطقيّة فلسفيّة، ترجمة مصطفى صفوان، الهيئة المصريّة العامة للكتاب.
حميد بركي







































Discussion about this post