”قوتنا التبريرية”
بقلم الكاتب: محمد منصور
النفس البشرية، بقدرتها التبريرية العجيبة، هي كيانٌ ينسج الروايات الوهمية ببراعة فائقة، هذه القدرة ليست مجرد نزوة عقلية، بل هي تعبير عن الحاجة العميقة للإنسان لخلق معنى في عالم مليء بالتناقضات. فالتبرير ليس فقط آلية دفاعية، بل هو أداة إبداعية تمكّن الإنسان من بناء قصص تجمع بين الحقيقة والخيال، لتصبح في بعض الأحيان أقوى من الواقع، فعندما يختلق الإنسان قصة وهمية، سواء كانت معتقدًا دينيًا، أو أيديولوجية سياسية، أو حتى حب رومانسياً، فإنه لا يقتصر على الإيمان بها فحسب، بل قد يصل به الأمر إلى التضحية بكل شيء من أجلها. لأن هذه القصص ليست مجرد أفكار عابرة، بل ستصبح جزءًا من هويته.
فلسفيا يمكن القول إن هذه القدرة التبريرية تعكس تناقضًا جوهريًا في الطبيعة البشرية: نحن كائنات عقلانية وغير عقلانية في آن واحد. عقلنا قادر على تحليل الواقع بدقة، لكنه أيضًا قادر على تجاهل الحقائق إذا كانت تهدد القصة التي نؤمن بها. هذا ما يجعل الإنسان يقاتل من أجل معتقداته، حتى لو كانت مبنية على أوهام. فالتاريخ مليء بالحروب والثورات التي قامت على أفكار لم تكن بالضرورة “حقيقية” بمعايير موضوعية، لكنها كانت حقيقية بما يكفي في قلوب المؤمنين بها.
من الناحية النفسية، هذه القدرة مرتبطة بما يُعرف بـ”التنافر المعرفي” فعندما يواجه الإنسان تناقضًا بين معتقداته والواقع، فإنه يميل إلى إعادة تفسير الواقع عوضا عن تغيير معتقداته. هذا التفسير قد يتطلب اختلاق قصص معقدة لتبرير التناقض. فالإنسان لا يتحمل الفراغ، لذا يملأه بالروايات، حتى لو كانت وهمية.
هنا يبرز تساؤل هل هذه القوة التبريرية نعمة أم نقمة؟ يبدو أن التبريرية التي تسيطر علينا هي التي تجعلنا نبتكر، نحلم، ونصنع المعجزات. من جهة أخرى، هي التي قد تدفعنا إلى الجنون، أو إلى تدمير أنفسنا وغيرنا دفاعًا عن أوهام. ربما الجواب يكون في التوازن: أن ندرك قوة قصصنا، وأن نسعى لاختبارها باستمرار أمام الواقع، دون أن نفقد القدرة على الخيال. في النهاية، النفس البشرية لا تضاهى في قدرتها على خلق المعنى، حتى لو كان هذا المعنى وهميًا. إنها قوة تجمع بين العبقرية والجنون، بين الخلق والتدمير. وفي هذا التناقض يكمن سر وجودنا.







































Discussion about this post