ريّا وسكينة: سيمفونية الّرعب
الّتي عزّفتها أحياء الإسكندرية .
بقلم: سلمى صوفاناتي
في حنايا الإسكندرية، حيث تتهادى أرواحُ المنسيين بين أمواجٍ من النّسيان، وُلِدَتْ أسطورةٌ لَمْ تَكْتُبْهَا أَقْلَامٌ بَلْ سُطِّرَتْ بِأَنْيَابِ الجريمة. هنا، حيث الفقرُ يَرْتَدِي ثَوْبًا مُمَزَّقًا بِفِعْلِ رِيَاحِ اليَأْسِ، وحيث الشّمسُ لَا تَلْمِسُ إِلَّا الأَجْسَادَ وَلَكِنَّهَا تَعْجِزُ عَنْ إِضَاءَةِ القُلُوبِ، إنْبَثَقَتْ ظِلَالُ “رِيَّا وَسَكِينَة” مِنْ رَحِمِ المَعَانَاةِ لِتَصِيرَ كَابُوسًا يُطَارِدُ ضَمِيرَ الزَّمَنِ.
الأُخْتَانِ: بَيْنَ دَهَاءِ الأَفَاعِي وَإرْتِعَاشِ الضَّحِيَّةِ .
سَكِينَة عَلِي حَمَّادَة – لَيْسَتِ امْرَأَةً عَابِرَةً، بَلْ إِعْصَارٌ مِنَ العَدَمِ! عَيْنَاهَا بَارِدَتَانِ كَشَفْرَةِ سِكِّينٍ فِي لَيْلَةِ شِتَاءٍ، وَصَوْتُهَا يَقْطُرُ وَعُودًا مَزِيفَةً كَالسَّرَابِ. أَمَّا رِيَّا، فَكَانَتْ كَظِلٍّ مُلَوَّثٍ يَتْبَعُ أُخْتَهَا فِي رَقْصَةِ المَوْتِ، تُصَارِعُ ضَمِيرًا غَائِصًا فِي وَحْلِ التَّبَعِيَّةِ، وَلَكِنَّهَا تَسْقُطُ دَائِمًا فِي هَاوِيَةِ الطَّاعَةِ العَمْيَاءِ.
فِي ذَلِكَ البَيْتِ الوَضِيعِ بِحَيِّ “بَحْرِي”، حَيْثُ الجُدْرَانُ تَشْرَبُ أَنِينَ الضَّحَايَا قَبْلَ أَنْ تَلْفِظَهُ صَدًى، نَسَجَتِ الأُخْتَانِ وَشَرِيكَاهُمَا (حَسَنٌ وَعَلِي) خُيُوطَ شَبَكَةٍ عَنْكَبُوتِيَّةٍ مِنَ الرُّعْبِ. كَانُوا يَصْطَادُونَ النِّسَاءَ الهَارِبَاتِ مِنْ قَبْضَةِ الحَيَاةِ – العَاهِرَاتُ، المَطْلُقَاتُ، المَكْسُورَاتُ – بِابْتِسَامَةٍ تَخْتَفِي خَلْفَهَا نَوَايَا سَوْدَاءُ. ثُمَّ، فِي لَحْظَةٍ يُطْفَأُ فِيهَا مِصْبَاحُ الإِنْسَانِيَّةِ، تَسِيلُ الدِّمَاءُ كَالنَّبِيذِ الرَّخِيصِ، وَتُسْرَقُ الحُلِيُّ البَائِسَةُ لِتُبَاعَ فِي سُوقِ الآثَامِ.
الدَّمُ الَّذِي نَطَقَ تَحْتَ أَلْوَاحِ الأَرْضِ.
لَكِنَّ الأَرْضَ لَا تَكْتُمُ أَسْرَارَ القَتْلَى إِلَى الأَبَدِ. فِي عَامِ 1921، حِينَ اخْتَفَتِ امْرَأَةٌ كَانَ لِغِيَابِهَا صَوْتٌ يَصْرُخُ بِالمُطَالَبَةِ بِالعَدْلِ، انْكَشَفَتِ اللُّعْبَةُ الدَّمَوِيَّةُ. عِنْدَمَا اقْتَحَمَتِ الشُّرْطَةُ المَنْزِلَ الكَئِيبَ، لَمْ يَجِدُوا مَجَرَّدَ جُثَثٍ، بَلْ وَجَدُوا قِصَصًا مَقْطُوعَةَ الأَنْفَاسِ، أَحْلَامًا مُعَلَّقَةً عَلَى جُدْرَانِ الرُّعْبِ، وَصَرْخَاتٍ مَحْنُوطَةً فِي زَوَايَا الغُرَفِ. الرَّائِحَةُ وَحْدَهَا كَانَتْ شَاهِدَةً عَلَى أَنَّ الجَرِيمَةَ هُنَا لَمْ تَكُنْ خَطِيئَةً عَابِرَةً، بَلْ طَقْسًا شَيْطَانِيًّا تَكَرَّرَ وَكَأَنَّهُ قُدَّاسٌ أَسْوَدُ.
المَسْرَحِيَّةُ: حِينَ يَرْقُصُ المَوْتُ عَلَى أَنْغَامِ المَأْسَاةِ.
عَلَى الخَشَبَةِ، تَحَوَّلَتِ الحِكَايَةُ إِلَى لَوْحَةٍ سُورْيَالِيَّةٍ يَمْتَزِجُ فِيهَا الأَلَمُ بِالجَمَالِ البَشِعِ. سَكِينَةَ تَتَحَرَّكُ كَمَلِكَةٍ فِي مَمْلَكَةِ المَوْتِ، عَيْنَاهَا خِنْجَرَانِ، وَضَحْكَتُهَا تُشْبِهُ صَرِيرَ أَبْوَابِ الجَحِيمِ. بَيْنَمَا رِيَّا – المَسْحُورَةُ بِتَبَعِيَّتِهَا – تَتَرَاقَصُ عَلَى حَافَّةِ الهَاوِيَةِ، كَطَائِرٍ مُجَنَّحٍ بِسَلَاسِلَ مِنْ ذَهَبٍ مَزِيفٍ.
المَشَاهِدُ يَشْهَدُ تَحَوُّلَ الإِنْسَانِ إِلَى وَحْشٍ حِينَ يُحَاصِرُهُ الفَقْرُ وَاليَأْسُ، وَكَيْفَ أَنَّ القَسْوَةَ قَدْ تَصِيرُ لُغَةً لِمَنْ فَقَدُوا كُلَّ لُغَاتِ الأَمَلِ. أَمَّا التَّحْقِيقُ البُولِيسِيُّ، فَهُوَ مَعْرَكَةٌ بَيْنَ نُورِ الحَقِيقَةِ وَظَلَامِ النُّفُوسِ المُعَتَّقَةِ، كُلُّ دَلِيلٍ جَدِيدٍ هُوَ إِصْبَعُ اتِّهَامٍ يَشِيرُ إِلَى الجَرِيمَةِ، وَكُلُّ اعْتِرَافٍ هُوَ مِسْمَارٌ يُدَقُّ فِي نَعْشِ البَرَاءَةِ المَزْعُومَةِ.
مِنْ تَحِيَّةِ كَارِيُوكَا إِلَى أَسَاطِيرِ السِّيْنَمَا: حِينَ يُجَسِّدُ الفَنُّ الرُّعْبَ بِأَبْهَى حُلَلِهِ
لَعَلَّ أَبْلَغَ تَجْسِيدٍ لِهَذِهِ المَأْسَاةِ كَانَ فِي فِيلْمِ 1953، حَيْثُ تَحَوَّلَتْ تَحِيَّةُ كَارِيُوكَا (رِيَّا) إِلَى لَوْحَةٍ تَعِجُّ بِالتَّنَاقُضَاتِ: عَيْنَاهَا بَحْرٌ مِنَ الدُّمُوعِ، بَيْنَمَا يَدَاهَا تَقْطُرَانِ ذُنُوبًا لَا تُغْتَفَرُ. أَمَّا نَعِيمَةُ عَاكِف (سَكِينَةَ)، فَكَانَتْ تَجْسِيدًا لِلشَّرِّ المُطْلَقِ، بِبُرُودَةِ أَعْصَابِ قَاتِلٍ مُحْتَرِفٍ لَا يَرْتَعِدُ حَتَّى عِنْدَ احْتِضَارِ ضَحَايَاهُ.
عَلَى المَسْرَحِ، صَارَتِ القِصَّةُ أُسْطُورَةً تُذَكِّرُنَا بِأَنَّ الوُحُوشَ لَا تَسْكُنُ الغَابَاتِ، بَلْ قَدْ تَعِيشُ فِي بُيُوتٍ مُتَوَاضِعَةٍ، تَرْتَدِي أَثْوَابَ البَشَرِ، وَتَتَحَدَّثُ بِلُغَتِهِمْ.
لِمَاذَا لَا نَسْتَطِيعُ نِسْيَانَهُمَا؟
لِأَنَّهُمَا لَمْ يَأْتِيَا مِنْ عَالَمٍ خَيَالِيٍّ، بَلْ كَانَتَا مِرْآةً لِمُجْتَمَعٍ يَلِدُ الوُحُوشَ حِينَ يَحْرِمُ الإِنْسَانَ مِنْ إِنْسَانِيَّتِهِ.
لِأَنَّ الدَّمَ المَسْفُوكَ يَتَحَوَّلُ إِلَى حِبْرٍ يَكْتُبُ تَارِيخَ الرُّعْبِ بِأَحْرُفٍ لَا تُمْحَى.
وَلِأَنَّ القِصَّةَ – رَغْمَ بَشَاعَتِهَا – تَبْقَى تَحْذِيرًا خَالِدًا:
“احْذَرُوا، فَكُلُّنَا يَحْمِلُ فِي دَاخِلِهِ بَذْرَةَ وَحْشٍ قَدْ تَنْمو إذا جاع الضمير أو عطش القلب إلى الرحمة …








































Discussion about this post