الليلُ وآخِرُهُ …
مَلْحَمَةٌ تَئِنُّ تَحْتَ وَطْأَةِ الأَقْدَارِ …
بِقَلَمِ : سَلْمَى صُوفَانَاتِي
فِي أَزِقَّةِ القَاهِرَةِ العَتِيقَةِ، حَيْثُ تَحْكِي الحِجَارَةُ حِكَايَاتِ الأَزْمِنَةِ الغَابِرَةِ، وَتَتَنَفَّسُ الجُدْرَانُ أَسْرَارَ الأَجْيَالِ، تَنْتَصِبُ عَائِلَةُ المَنْشَاوِي كَصَرْحٍ شَامِخٍ، يَتَحَدَّى بِصَلَابَتِهِ عَوَاصِفَ الزَّمَنِ، كَالأَهْرَامَاتِ الَّتِي تَقِفُ شَامِخَةً بِوَجْهِ الدَّهْرِ.
رَحِيمٌ، الأَخُ الأَكْبَرُ، نَحَتَ مَجْدَ العَائِلَةِ بِإِزْمِيلِ الإِرَادَةِ، كَفَنَّانٍ يَصُوغُ مِنَ الصَّخْرِ تِمْثَالًا لِلخُلُودِ. يَحْمِلُ فِي صَدْرِهِ قَلْبًا يَنْبَضُ بِالحِكْمَةِ، رَغْمَ أَنَّ الأُمِّيَّةَ حَاوَلَتْ أَنْ تَسْرِقَ مِنْهُ نُورَ المَعْرِفَةِ. هُوَ الَّذِي أَضَاءَ الدَّرْبَ لِإِخْوَتِهِ بِشُمُوعِ التَّضْحِيَاتِ، حَتَّى صَارُوا أَعْمِدَةً فِي قَاعَاتِ العَدْلِ، وَقِلَاعِ الجَيْشِ، وَصَفَحَاتِ السِّيَاسَةِ.
لَكِنْ ظِلَّهُ الوَحِيدَ، رَفِيقَةَ الدَّرْبِ، كَانَتْ “حَسَنَاتِ”. المَرْأَةُ الَّتِي حَاكَتْ مِنَ الصَّبْرِ عَبَاءَةً لِلْوَفَاءِ، وَحَفِظَتِ العَهْدَ حَتَّى بَعْدَ أَنْ طَوَتِ الأَيَّامُ آخِرَ فَصْلٍ مِنْ حَيَاةِ رَحِيمٍ. ظَلَّتْ وَاقِفَةً كَشَجَرَةٍ بَاسِقَةٍ، جُذُورُهَا فِي الأَرْضِ، وَأَغْصَانُهَا فِي السَّمَاءِ، تَحْمِلُ ذِكْرَاهُ كَنَدًى لَا يَجِفُّ.
“اللَّيْلُ وَآخِرُهُ” .. لَمْ يَكُنْ جُرْحًا نَازِفًا فِي خَاصِرَةِ الزَّمَنِ، بَلْ كَانَ قِصَّةً تُرْوَى بِدَمِ العَاشِقِينَ وَحِبْرِ الكِبْرِيَاءِ.
عَائِلَةُ المَنْشَاوِي: قَبِيلَةُ المَجْدِ وَأُسْرَى الغُرُورِ.
فِي أَحْشَاءِ القَاهِرَةِ العَتِيقَةِ، حَيْثُ تَتَدَلَّى أَضْوَاءُ المَصَابِيحِ كَعُقُودِ اللُّؤْلُؤِ عَلَى صَدْرِ اللَّيْلِ، تَقِفُ عَائِلَةُ “المَنْشَاوِي” كَصَرْحٍ شَامِخٍ مِنَ الكِبْرِيَاءِ وَالتُّرَابِ. “رَحِيمٌ” الأَخُ الأَكْبَرُ الَّذِي سَادَ إِمْبَرَاطُورِيَّةَ العَائِلَةِ بِحِرْفِيَّةِ البَنَّائِينَ القُدَمَاءِ، يَحْمِلُ بَيْنَ جَنْبَاتِهِ قَلْبًا يَخْتَزِنُ حِكْمَةَ الأَزْمِنَةِ رَغْمَ بَسَاطَةِ تَعْلِيمِهِ. هُوَ الَّذِي أَضَاءَ الدَّرْبَ لِإِخْوَتِهِ حَتَّى صَارُوا أَعْمِدَةً فِي قَصْرِ العَدْلِ، وَثُكَنَاتِ الجَيْشِ، وَمَقَالِيدِ الصَّحَافَةِ. لَكِنْ ظِلَّهُ الوَحِيدَ كَانَ “حَسَنَاتِ”، المَرْأَةَ الَّتِي صَارَتْ خَطِيئَتَهُ المُعْلَنَةَ.
حُبٌّ يُدْفَنُ قَبْلَ أَنْ يُولَدُ .
حَسَنَاتُ، امْرَأَةٌ تَتَحَرَّكُ كَأَنَّهَا مُوسِيقَى حَزِينَةٌ تُعْزَفُ فِي زُقَاقٍ مُظْلِمٍ. وَقَعَ رَحِيمٌ فِي حُبِّهَا كَمَا يَقَعُ الثَّمَرُ النَّاضِجُ فِي التُّرَابِ قَبْلَ أَنْ يَذُوقَهُ أَحَدٌ. صَارَ لِقَاؤُهُمَا سِرًّا يَخْتَزِلُ فِي نَظَرَاتٍ سَرِيعَةٍ وَهَمَسَاتٍ مَكْبُوتَةٍ. اَلْمُجْتَمَعُ نَظَرَ إِلَيْهِمَا بِعَيْنٍ مُتَجَهِّمَةٍ كَسَيْفٍ مَسْلُولٍ فَوْقَ رِقَابِهِمَا، فَالْحُبُّ عِنْدَ الأَقْوِيَاءِ رَفَاهِيَةٌ لَا يَسْتَحِقُّهَا إِلَّا مَنْ يَدْفَعُ ثَمَنَهَا مِنْ لَحْمِهِ وَدَمِهِ. إِخْوَتُهُ وَقَفُوا ضِدَّهُ كَحُرَسٍ لِحِمَايَةِ شَرَفٍ وَهْمِيٍّ، فَكَانَ صِرَاعُهُ مَعَهُمْ كَمَنْ يُحَاوِلُ إِيقَافَ المَدِّ بِيَدَيْهِ العَارِيَتَيْنِ.
الْمَوْتُ.. البَابُ الوَحِيدُ المَفْتُوحُ
لَمْ يَمْنَحْهُ القَدَرُ فُرْصَةً أَنْ يَعِيشَ حُبَّهُ تَحْتَ الشَّمْسِ، فَدُفِنَ رَحِيمٌ تَحْتَ ثِقْلِ أَحْلَامٍ مَقْطُوعَةِ الأَنْفَاسِ، تَارِكًا خَلْفَهُ امْرَأَةً حَوَّلَتْ قَبْرَهُ إِلَى مِحْرَابٍ لِلْوَفَاءِ. “حَسَنَاتُ” ظَلَّتْ تَزُورُهُ كُلَّ يَوْمٍ كَشَاهِدٍ عَلَى حِكَايَةٍ لَمْ يُصَدِّقْهَا أَحَدٌ. حَتَّى لَحِقَتْ بِهِ كَظِلٍّ يُدْفَنُ مَعَ الأَصْلِ. وَهَكَذَا: صَارَ القَبْرُ ضَرِيحًا لِعِشْقٍ لَمْ يُعْتَرَفْ بِهِ أَحَدٌ سِوَى الرِّيَاحِ الَّتِي تَمُرُّ حَزِينَةً فَوْقَ التُّرَابِ.
أَبْطَالٌ نَحَتَ الزَّمَنُ صُوَرَهُمْ مِنْ نُورٍ :
بِبَرَاعَةٍ تُذَكِّرُنَا بِأَيَّامِ الزَّمَنِ الجَمِيلِ.. جَسَّدَ “يَحْيَى الفَخْرَانِي” شَخْصِيَّةَ “رَحِيمٍ” بِكُلِّ مَا تَحْمِلُهُ الكَلِمَةُ مِنْ مَعْنًى، فَكَانَ أَدَاؤُهُ كَالنَّهْرِ الجَارِي، عَمِيقًا وَصَاخِبًا وَحَزِينًا. أَمَّا نِيرْمِينُ الفَقِي، فَقَدْ أَلْبَسَتْ “حَسَنَاتِ” ثَوْبَ الحُزْنِ وَالجَمَالِ، فَبَدَتْ كَالزَّهْرَةِ الَّتِي تَتَفَتَّحُ فِي مُنْتَصَفِ اللَّيْلِ، لِتَمُوتَ مَعَ بُزوغِ الفَجْرِ.
بِتَوْقِيعِ الكَاتِبِ “مُحَمَّد جَلَال عَبْد القَوِيِّ” وَإِخْرَاجِ: “رَبَاب حُسَيْن”، صَارَ “اللَّيْلُ وَآخِرُهُ” أَكْثَرَ مِنْ مَسْلَسِلٍ.. صَارَ شَاهِدًا عَلَى أَنَّ الفَنَّ الحَقِيقِيَّ هُوَ الَّذِي يَخْتَرِقُ القُلُوبَ قَبْلَ العُيُونِ، وَيَبْقَى فِي الذَّاكِرَةِ كَنَدْبَةٍ لَا تَبْرَأُ.
هَذِهِ لَيْسَتْ مَجَرَّدَ قِصَّةٍ مِنْ عَائِلَةٍ أَوْ حُبٍّ مَحْرُومٍ، بَلْ هِيَ مَرْثِيَّةٌ لِلإِنْسَانِ الَّذِي يُدْفَنُ حَيًّا تَحْتَ صُخُورِ الكِبْرِيَاءِ، وَتَرْنِيمَةٌ لِلْقَلْبِ الَّذِي يَظَلُّ يَنْبَضُ حَتَّى تَحْتَ الرَّكَامِ …








































Discussion about this post