أمّة تجهل وتدّعي
راوية المصري
في زمنٍ تُلبس فيه الحقيقة أقنعة، والجهل يزدان بالبذلات الرّسميّة، نكتشف أنّ الجاهليّة لم تمت… بل تحضّرت، وصارت ترتدي ربطة عنق أنيقة!
منذ قرون، حين وُصف العرب قبل الإسلام بـ”الجاهليّة”، لم يكن المقصود جهل العقل أو غياب الثّقافة. كانوا أهل فصاحة وشعر، وفخر ومروءة، لكنّهم عاشوا في غياب النّور الرّوحي، وتاهوا في صحراء القبليّة والتّعصّب. لا دولة، بل قبائل؛ لا قانون، بل شيخ ومستشارون؛ لا مساواة، بل سادة وعبيد.
ومع ذلك، وقف الشًعراء على أطلال القيم، وارتفع الخطباء دفاعًا عن قبائلهم، وكان الأدب عنوان المجد.
لكن، ماذا عن جاهليّتنا اليوم؟
لقد تحسّنت الظّروف، لكن هل تحسّنا نحن؟
تبدّلت الأسماء وبقيت العقول، تغيّر الشّكل وثبت الجوهر.
العبيد سُمّوا خدمًا، والسّادة تنوّعت ألقابهم بين مسؤول ورجل أعمال ونافذ.
الشّيوخ تكاثروا، لكنّهم لم يعودوا يسوسون القبيلة بل يتنازعون على فتات السّلطة.
المستشارون كثروا، لكنّهم لا يُستَشارون، بل يبرّرون.
الشّعراء والخطباء تركوا منابر القيم، وصعدوا على منّصات التزييف والتطبيل.
والجهل؟ تسلّل في هيئة متعلّم، يرتدي بدلة ويتكلّم بثقة، لكنّه لا يفرّق بين الصّواب والمصالح.
أمّة كان يُفاخر شعراؤها بفصاحتهم، بات أكثر من نصفها أمّيًّا.
أمّة كانت تفخر بخطبائها، بات خطباؤها يبرّرون الظّلم باسم الدّين.
أمّة كانت تقدّس الحِلم والكرم، باتت تمجّد الغضب والبذخ.
تقدّمت التّكنولوجيا، وتخلّفنا نحن.
توسّعت المدن، وضاقت العقول.
كبرت منازلنا، وصغرت قلوبنا.
فيا لسخرية المشهد:
الجاهليًة الأولى كانت تغزو بالسّيوف، وجاهليّتنا الحديثة تغزو بالعناوين الرّنّانة.
أولئك شربوا الخمر، ونحن سكِرنا بالشّهرة والنّفاق.
هم عبدوا الأصنام، ونحن عبدنا المال والسّلطة والمظاهر.
الجهل اليوم لم يعد في من لا يقرأ ويكتب، بل في من لا يفهم ولا يُفكّر..
أما المصيبة الكبرى، فهي في مدّعي المعرفة، ذاك الّذي يتدخّل في كلّ علم، ويفتي في كلّ قضيّة، ويدّعي الفهم في كلّ مجال، ولا يُفلح في شيء!
ذلك الّذي لا يُسأل إلّا ويُجيب، لا يُجادَل إلّا ويصرخ، لا يقرأ، لكنّه يُنظّر، لا ينجح، لكّنه يُحاضر في النّجاح!
هؤلاء ليسوا مجرد جهلة… بل خطرٌ على كلّ أمّة، لأنّهم يقودون وهم لا يعرفون الطّريق….







































Discussion about this post