★وفــــاء كل ثلاثــــــاء ★
★شهادة تقدير وعرفان ★
الشخصية الخامسة.
حميد بركي: شاعر الفكرة وناقد الحواس
في دروب الدار البيضاء، حيث يتعانق صخب الميناء مع همس الأزقة العتيقة، ويمتزج عبق البحر بأنين الأزمنة، نشأ حميد بركي، شاعر الحواس الخمس وناقد الفكر المتقد. لم تكن ولادته مجرد حدث بيولوجي، بل كانت ولادة وعي متوهج، صاغته النضالات الأولى لوالده المقاوم، الذي حمل شعلة الكرامة في وجه الاستعمار، ثم أورثها لابنه، لا كرصيد عابر، بل كأمانة ثقيلة، حملها بركي على هيئة قلم يسطّر تاريخ الكلمات، ويوقّع على سفر الوعي.
بين دفاتر المدرسة وصخب المقاهي الثقافية، بدأ بركي يخط ملامح مشروعه الأدبي، باحثًا في الحرف عن نبض الإنسان، وفي القصيدة عن مرآة للمدينة وأشجانها. لم يكن الشعر لديه زينة لغوية أو ترفًا بلاغيًا، بل كان نافذة تطل على جوهر الوجود، ومبضعًا يشق به أنسجة المجتمع، ليكشف عن جروحه وأحلامه المؤجلة. منذ انخراطه في نادي “الحواس الخمس”، تشكل وعيه بأن الإبداع ليس من الكماليات، بل من الضروريات، وأن كل قصيدة هي نداء حرية، وكل نقد هو محاولة لإيقاظ النصوص من سباتها، والعقول من غفلتها.
التقيته، تعرفت عليه، إستمعت له، حاورته، فوجدت فيه ذاك الرجل المتزن، النبيل، الخلوق. رجل إذا تحدث، أنصت الجميع، وإذا صمت، شعرت أن للصمت معنى، بل لغة. في حضرته، تنكفئ الضوضاء، وتفسح الطريق للمعنى، وتخفت الأضواء ليظهر جوهر الكلمة وعطر الفكرة.
لنتأمل ملامحه في الصورة التي تخلد لحظة فكرية نابضة، لحظة من لحظات التجلي والتوهج، وهو يتحدث بشغف يفيض من قسمات وجهه، من يده التي ترسم المعنى، ومن عينيه اللتين تشعان بوميض المعرفة. قبعته الرمادية ونظارته السوداء تضيفان لحضوره وقار الحكماء، وتواضع العارفين، كأنهما شاهدان صامتان على زمن طويل من التأمل، من القراءة، من الإصغاء للذات والآخر.
ليست الصورة لحظة توثيق فقط، بل هي مشهد من مشاهد السيرة، فصل بصري من حكاية رجل يرى في الأدب فعلاً وجوديًا لا حياد فيه. وكما جاء في وصفه سابقًا: “لم يكن حميد بركي شاعرًا يكتفي بغناء العزلة، بل كان صانع حوار، يرى في النقد فعل مقاومة، وفي الأدب سلاحًا ضد النسيان”، ها هو هنا، في حضرة الكلمة، يواصل مقاومته الفكرية، يرفع صوته بالحقيقة من خلف الميكروفون، يرافع لا باسم الذات، بل باسم الإنسان.
نبرة الجدية والانفعال في ملامحه تؤكد أن كل كلمة ينطق بها هي ثمرة إيمان راسخ برسالة الأدب، وكل حوار يشارك فيه هو امتداد لذلك الالتزام القديم الذي تشكّل في حضن أب مقاوم، وبين دفاتر الطفولة الأولى. جلسته لا توحي بالترف أو التعالي، بل بالصدق، بالتصالح مع الذات، بالانخراط العميق في قضايا الإنسان.
إنها صورة تكاد تنطق: شاعر الفكرة في ميدان القول، ناقد الحواس في لحظة اشتعال المعنى، رجل يذوب في كلمته كما يذوب العطر في الزهر.
لم تكن رحلته في الكتابة سهلة، لكنه كان فارسها النبيل، يمتطي جواد الحرف، ويشهر ديوانه “فارس المدينة” كسيفٍ من كلمات، يواجه به ظلال الغموض في النصوص، ويفضح بواطن المعاني ببصيرة الشاعر وجرأة الناقد. من “رياح أنفا” التي تتنفس البحر وحكايات الموج، إلى “سوق عكاظ” حيث تتلاقى الأصوات وتتصادم الرؤى، كان بركي يؤمن أن النصّ هو ساحة معركة فكرية بين اللغة والفكرة، وأن الأدب، إن لم يكن نافذة تطل على الحقيقة، فلا جدوى منه.
في محاضراته، كما في كتاباته، نسج بركي رؤيته حول مفهوم “الفكر الأدبي”، ذلك الامتزاج المتناغم بين العقل والعاطفة، بين الفكرة والعبارة، حيث لا انفصال بين الإبداع والنقد، ولا مسافة بين القصيدة والحياة. رأى أن الأدب ليس سردًا للحلم، بل مسؤولية أخلاقية، نداءً يعبر الأجيال، ويصوغ الإنسان من جديد.
حميد بركي ليس شاعرًا ينعزل في برج القصيدة، بل فاعلاً ثقافيًا يؤمن أن النقد مقاومة، وأن الكلمة الحرة سلاحٌ ضد التبعية والنسيان. في المهرجانات، كما في الجلسات الحميمية، حضوره طاغيًا، لا بضجيج، بل بعمق، لا بصوت مرتفع، بل بأثرٍ باقٍ. يتحدث عن القصيدة كما يتحدث العاشق عن معشوقته، وعن النقد كما يتحدث المحارب عن سلاحه.
وحين تسأله عن رسالته، يجيبك بابتسامة هادئة، كأنما يقول: كل قصيدة أكتبها، كل فكرة أؤمن بها، كل موقف أتبناه… هي رسالة بحد ذاتها.
اليوم، حين نقرأ حميد بركي، لا نقرأ مجرد شاعر أو ناقد، بل نقرأ سيرة مدينة تنبض في كل سطر، نقرأ صورة رجل آمن بأن الكلمة حياة، وأن القصيدة ضمير، وأن الإنسان لا يكون إنسانًا إلا إذا فكر، ولا يكون فكره حقيقيًا إلا إذا صاغه بصدق ومسؤولية.
إنه حميد بركي… شاعر الفكرة، ناقد الحواس، وسفير الإنسان في جمهورية الكلمة.
★ عبدالرحيم طالبة صقلي ★







































Discussion about this post