ورقة في قصيدة الشاعر الأستاذ محمد أحمد طالبي بعنوان : مرثية الحبر الأخير والتي عنونتها ب:
★حين تصير الكلمات مرثية الذات★
في ((مرثيّة الحبر الأخير)) لا نقرأ نصًا بالمعنى المألوف، بل نشهد طقس وداع شعري حارق, حيث يشيّع الكاتب حبره وكلماته كما تُشيّع الأحلام المدفونة. منذ الجملة الأولى، يتجلّى أن الكتابة هنا ليست ترفًا أو لعبة فنية، بل محاولة يائسة لتجميل عالم قبيح، سعيًا لترميم شروخ الواقع ولو على هامش سطرين.
هذا الاستهلال يضعنا أمام مشروع وجودي حاد، حيث تغدو اللغة، سلاح دفاع عن الذات ضد قسوة المحيط، لا مجرد أداة وصف. الكائن الكاتب يمشي على “ضوء جملة ناقصة”، يتوكأ على استعارات بالية، ويحتمي بالمجاز كما يحتمي الغريق بسراب. هكذا تغدو اللغة مأوى هشّا وأداة دفاع واهنة في آنٍ معًا. تعزز هذه الرؤية مفاتيح قرائية دقيقة، أولها أن النص ينتمي إلى المرثية الحديثة، مستخدمًا الحبر والورق رمزين متوترين للوجود والغياب، ليعبر عن صراع دائم بين الحضور الإبداعي والخذلان الوجودي. يتقدم النص ليكشف عن علاقة مأزومة مع الآخر — المرأة التي “تسكن البيت، لكنها لا تسكنه”، والتي تتحول إلى رمز للصمت والجفاء والانعكاس الميت: “عينها مرآة لا تعكس”. بتفكيك هذا المشهد، ندرك أن الكاتب لا يفتقد الحب فحسب، بل يبحث عن الاعتراف بوجوده كذات كاتبة ومفكرة وحالمة. في حوار قصير مكثف، يطلب منها أن يكتبا معًا “فصلا لا يكون فيه أحدهما ظل الآخر”، فتجيبه بصرامة جارحة: “اكتب وحدك، لكن لا تطالبني أن أراك”. هنا تنكشف قطيعة وجودية تامة، تنهار معها إمكانات الحلم بمشروع مشترك، ويُفهم الآخر كـ حدّ للفرد لا امتداد له. وفي لحظة أقسى، تنهض “محكمة داخلية” لمحاكمته: تهمة الفرح، تهمة الحلم، تهمة الحضور. الكتابة نفسها تصير تهمةً، والمشروع الجمالي يتحول إلى محكمة بلا شريعة، حيث يسود “قانون بلا عنوان”، كما لو أن العالم كله قد دخل عصر ما بعد المعنى. ثم تحل لحظة الانطفاء الكبرى: الكاتب يحرق الحبر. لا ندم، لا دموع، بل رماد دافئ كقلب توقف عن الحلم. والبكاء مرفوض، لأنه “اعتراف”، فيما الكاتب غارق في إنكار كوني شامل — مقاومة للاعتراف بالهزيمة رغم الانكسار العميق. ومع أن الورق احترق، إلا أن اللغة بقيت، واقفةً على الرماد كما يقف طائر ميت ينتظر قيامة. تتبدل الكتابة هنا من أثر مكتوب إلى ندبة حية، تتحول من مادة خارجية إلى جرح غائر في الذاكرة والوجدان. بهذا النص، تتكثف رمزية عالية وجمالية مركبة، تفرض مفاتيح تأويلية دقيقة:
الثيمة المركزية: انطفاء المبدع ذاتيا تحت وطأة قسوة الواقع وانسداد الأفق العاطفي.
الزمن الوجودي: زمن ما بعد الحلم — لا بداية جديدة واضحة، لا ندم، فقط رماد وانتظار غامض. العلاقة مع الآخر: انهيار كامل، واستبدال الشراكة بوحدة قاسية تُحيل الكتابة إلى ملاذٍ أخير ثم تُطفئه. اللغة: تتحول من أداة تعبير إلى أثر داخلي، إلى ندبة لا تُشفى، معلنة الانتقال من الكتابة إلى ما بعد الكتابة. النهاية المفتوحة: تُبقي على سؤال معلق: هل تقوم اللغة من رمادها؟ وهل تُشفى الندبة يومًا؟ في المحصلة، تشكل “مرثيّة الحبر الأخير” أكثر من تأبين للكتابة؛ إنها مرآة لمحنة الذات الحية حين تُحاصر من الداخل والخارج، لتغدو كلمتها شهادة دامعة على صراع بين الحلم والانطفاء، بين الأمل والخذلان، بين الكتابة والاحتراق.
التفكيك الرمزي المتأني للمقاطع:
((كنتُ أكتب، لا لأن العالم جميل، بل لأنني أردتُ أن أجعله كذلك، ولو بين سطرين.)) انقلاب في الوظيفة التقليدية للكتابة بدل أن تعكس الجمال، تسعى لخلقه في عالم قبيح. الكتابة = مقاومة. السطران = هشاشة المسعى أمام اتساع القبح.
((كنت أمشي على ضوء جملة ناقصة، أتوكأ على استعارة وأحتمي من بلادة الواقع بمجاز هش.)) تصوير رائع للتيه، حيث المعنى نفسه غير مكتمل لكنه مع ذلك يقود. الجملة الناقصة = رحلة بحث مستمر عن معنى. الاستعارة = ملجأ هش أمام قسوة الوجود.
((امرأة تسكن البيت، لكنها لا تسكنني.)) جملة قصيرة لكنها غائرة في المأساة الوجودية. السكن الجسدي ≠ السكن الروحي. الآخر حاضر جسدًا، غائب روحًا.
((عينها مرآةٌ لا تعكس، صوتها سياج من شوك، وروحها… صخرة لا يشقّها نبع ولا شِعر.)) تصاعد تعبيري يصور تدهور العلاقة من الجفاء إلى الجمود الكامل. المرآة العمياء = انعدام تواصل. سياج الشوك = إيذاء رمزي. الصخرة = قسوة وانغلاق.
((قلت لها: تعالي نكتب معا فصلا لا يكون فيه أحدنا ظل الآخر.)) رجاء رقيق ببناء علاقة ندية. الظل = فقدان الذات. الفصل المشترك = حلم بصناعة مصير مشترك.
((قالت: اكتب وحدك، لكن لا تطالبني أن أراك.)) إجابة صلبة تبتر الحلم المشترك. الكتابة الفردية = وحدة وجودية قسرية. إنكار الآخر = إنكار الوجود ذاته.
((كلما أمسكتُ بالقلم، كانت تنهض بداخلي محكمة تحاكمني بتهمة الغياب. تهمة الفرح… تهمة أنني ما زلت أحلم.)) تصوير مؤلم لمحاكمة الذات أمام أي محاولة فرح أو حلم. المحكمة = الضمير المعذب. الحلم = جريمة في زمن القسوة.
((كان حضوري جريمة، وشغفي مادة سوداءَ في قانون بلا عنوان.)) تكثيف شعور الغربة، وانعدام القيم. الشغف = خطيئة. القانون الغامض = عالم بلا قيم.
((ذات مساء، أحرقتُ الحبر. لا ندم، لا عزاء. مجرد رماد دافئ، كأنه قلب توقف عن الحلم.)) لقطة ختامية للتخلي الهادئ عن الحلم. الحبر = حياة الكلمة. الرماد الدافئ = أثر حلم محترق.
((لم أبكِ. البكاء اعتراف، وأنا كنت في حالة إنكار كونية.)) تكثيف فلسفي لموقف وجودي من الفقد. الامتناع عن البكاء = مقاومة الاعتراف. الإنكار الكوني = صرخة وجودية في الفراغ.
((الورق احترق… لكن اللغة وقفت على الرماد، كما يقف طائر ميت في انتظار قيامة. أعرف الآن: الكتابة لا تمحى، هي تنتقل فقط من الورق إلى الندبة.)) نهاية مفتوحة على أمل خافت: قيامة ممكنة من تحت الرماد. الندبة = بقاء الجرح والذكرى معًا. انتقال اللغة = استمرار أثر الإبداع رغم الاحتراق.
وها هنا، تأتي مفارقة الحبر والرماد. الحبر، الذي كان يومًا رمزا للإبداع والنقاء، أصبح اليوم رمادًا. إنه ليس فقط احتراق للكلمات، بل أيضًا للتحول من الفعل الكتابي إلى ما بعد الكتابة. الرماد هنا ليس فقط أثرًا احتراقياً، بل هو أثر ذاتي داخل الذاكرة الحية، ذاكرة تحفظ الوخزات، الأوجاع، والأحلام المتلاشية. فما تبقى من الكتابة هو الندبة الحية، التي ترفض الاختفاء، وتبقى شاهدة على أن الحبر الذي احترق لم يكن موتًا، بل انتقالًا إلى شكل جديد من التعبير، إلى ما بعد الكلمات. وهكذا، يسدل الليل ستاره على حبرٍ أنهكه النزيف، ولغةٍ تكسّرت أجنحتها على صخور الصمت. تمضي الكلمات مثل طيفٍ خافتٍ في مهب الريح، تبحث عن دفءٍ ضائع بين رماد الأحلام. ومع كل رمقةِ غياب، يظل في الحبر رعشةُ حياةٍ مستترة، كأن الرماد نفسه يهمس: ما مات الحلم، بل اختبأ في عتمة الجرح، ينتظر فجرًا لم تُخطّه الأقلام بعد.
★عبد الرحيم طالبة صقلي★
القصيدة “مرثيّة الحبر الأخير”
كنتُ أكتب،
لا لأن العالم جميل،
بل لأنني أردتُ أن أجعله كذلك، ولو بين سطرين.
كنتُ أمشي على ضوء جملة ناقصة،
أتوكأ على استعارة
وأحتمي من بلادة الواقع بمجاز هش.
امرأة تسكن البيت،
لكنها لا تسكنني.
عينها مرآةٌ لا تعكس،
صوتها سياج من شوك،
وروحها…
صخرة لا يشقّها نبع ولا شِعر.
قلت لها:
تعالي نكتب معا فصلا لا يكون فيه أحدنا ظل الآخر.
قالت:
اكتب وحدك، لكن لا تطالبني أن أراك.
كلما أمسكتُ بالقلم،
كانت تنهض بداخلي محكمة
تحاكمني بتهمة الغياب.
تهمة الفرح…
تهمة أنني ما زلت أحلم.
كان حضوري جريمة،
وشغفي مادة سوداءَ في قانون بلا عنوان.
ذات مساء،
أحرقتُ الحبر.
لا ندم،
لا عزاء.
مجرد رماد دافئ،
كأنه قلب توقف عن الحلم.
لم أبكِ.
البكاء اعتراف،
وأنا كنت في حالة إنكار كونية.
الورق احترق…
لكن اللغة وقفت على الرماد،
كما يقف طائر ميت في انتظار قيامة.
أعرف الآن:
الكتابة لا تمحى،
هي تنتقل فقط
من الورق إلى الندبة.
★ محمد احمد طالبي







































Discussion about this post